عن النكسة .. عن الهزيمة .. عن الحرب .. عن الأحلام .. عن الأوهام .. عن الأفراح .. عن الفساد .. عن البيروقراطية .. عن الظلم .. عن الحب .. عن الأمل .. عن الاستسلام .. عن المقاومة .. عن العائلة .. عن صراع الأجيال .. عن كل الأجيال .. عنى و عنك يتحدث هذا الفيلم ، يقدم " يوسف شاهين " حال المجتمع المصرى بعد النكسة و قبل النكسة و الغريب أنه يقدم الواقع كما هو الآن فهل كانت هذه صدفة أم أنه الصدق الفنى و الاخلاص فى الرؤية بدون ابتذال و خطابية فجة ؟؟ بالطبع هو الصدق الفنى و قراءة متأنية لنفسية المواطن أيا كانت جنسيته .... كان هذا الفيلم هو المرآة التى أراد " يوسف شاهين " أن ننظر اليها جميعا لكنه كان يعلم أننا سندارى القبح الذى سنراه لذا بدأ فيلمه بمشهد فى غاية الروعة : المهرج الذى يقف أمام المرآة يضع قناعا من الألوان على وجهه يخفى به حزنه و ألمه - فى اشارة رائعة للنكسة - و تتغير نبرة صوته تباعا خلال هذا المشهد الذى تقترب فيه الكاميرا من المرآة شيئا فشيئا بهدوء و سلاسة ، فتارة يدندن و تارة يسكت و تارة يبكى ثم يضحك ، هذا المشهد الخالد الذى لم بتعد الثلاث دقائق لخص به " شاهين " ما يريد أن يقوله و لاحظ أن المشهد كان مظلما جدا تكاد التفاصيل تظهر فيه و الأجمل أن الفيلم ينتهى بنفس المهرج و هذه المرة معه صغيره يتراقصان و يدندنان سويا أمام قرص الشمس الذى ينتصف الكادر و ذلك بعد المجزرة الدامية التى حدثت فى دار المدبولى قبل قليل ثم رحيل " ابراهيم " عن " ميت شابورة " ..... " نبص قدامنا على شمس أحلامنا نلقاها بتشق السحاب الغميق " .... كل شخصية فى الفيلم حملت رمزا ما و اشارة الى شخص بعينه بدون مباشرة و سذاجة فى الطرح ، يخلط " شاهين " الماضى بالحاضر بالمستقبل فأخطاء الماضى أثرت على الحاضر و أخطاء الحاضر ستؤثر على المستقبل و هكذا و لا يترك لك المخرج مساحة لالتقاط الأنفاس بل يأتى كل ذلك تباعا بايقاع لاهث و مشاهد قصيرة بتقطيع مونتاجى سريع و حاد و جمل حوار قصيرة تحمل فى طياتها الكثير ، يمزج فى ذلك الدراما بالموسيقى بالاستعراض بالمأساة بالرومانسية يخلق ايقاعا لا يهدأ الا بعد انتهاء المجزرة هنا ستلسقط أنفاسك و تبدأ تفكر فى الفيلم و شخصياته و أحداثه
الماضى محمد الدبولى .... محمود المليجى " الأب الذى لا يعى شيئا ، أضاع أموال العائلة على الحفلات و تعمير الصحراء ، توقف عن متابعة الأحداث يعيش فقط على أوهام باريس ، يصطدم بكل ما يحدث فى البيت و كأنه لا يعيش هناك يخضع تماما لارادة ابنه " طلبة " و يخاف منه ، ما بيده حيلة يعد " ابراهيم " بجواز السفر دون أن يعلم أن هذا لن يحدث رتيبة .... هدى سلطان " الأم التى لا تعبأ بمصائر أولادها ، تستخدمهم كدمى فقط للحفاظ على الأرض و البيت ... " فى المهم و فى الأهم " كما جاء على لسانها فى نهاية الأحداث ، و لا مانع لديها من التغطية على جريمة بأخرى أبشع منها كما جاء على لسان " طلبة " فى نهاية الأحداث
الحاضر طلبة .... شكرى سرحان " الأخ الأكبر رمز السلطة و البيروقراطية التى يختنق فى ظلها " على ... أحمد محرز " الذى يرضى مستسلما أن يخضع لارادة أخيه بعد عودته فقط حتى يهيأ نفسه للانتقام ممن ظلموه و يعيش أسير ماضيه بعد أن كان رمز الأمل لقرية " ميت شابورة " ، يستولى " طلبة " على كل شىء : المعصرة ، البيت ، " فاطمة .... سهير المرشدى " التى اغتصبها و التى عاشت 12 سنة منتظرة على تحلم به " لكن انك تحلمى بيه فبقت عادة " كما جاء على لسان " طلبة " تكتم بداخلها كل هذا الأسى و الحزن لتأتى لحظة انفجارها فى النهاية عندما تحاول أن تغتصب " على " .. " عايزة اخلص " هكذا تقول فلم يعد شبح تخترعه من " نفوخها " لتأتى أيضا هنا بداية ثورة " على " عندما ينهال عليه ضربا " بقالى اتناشر سنة باتاكل " لتأتى النهاية بأن يقتل الابن أمه و يقتل الأخ أخوه و تأتى " فاطمة " لتقتل " طلبة " و يهرب " ابراهيم " مع " تفيدة " الى المستقبل .. الى شمس أحلامهما "
يأتى المستقبل هنا متجسدا فى شخصيتى " ابراهيم و تفيدة " فالأول يريد أن يسافر الى القمر و هو مثله مثل " على " كان متحمسا ممتلئا بالحيوية و الطاقة - كما يقول كل أبطال الفيلم - ينتظر رجوع " على " بفارغ الصبر بعد أن فقد الأمل فيمن حوله لكن تأتى الصدمة عندما يجد " على " نفسه و قد أصبح أسيرا لماضيه ، خاضعا لارادة أخيه و تأتى تعبيرات " هشام سليم " للتعبير عن هذه الصدمة فى منتهى الروعة
الجميل هنا أن كل شخصية تشرح الأخرى فى جمل فى منتهى الروعة بل و توضح نفسها أيضا ، و لا يلجأ المخرج الى طريقة غريبة فى السرد مثلا حتى و ان احتوى الفيلم على مشاهد فلاش باك خاصة بشخصية " على " فهذه الأحداث اختار " على " أن يكون أسيرا لها بعد عودته فأصبحت هى شاغله الأكبر ، حتى الأغانى التى احتواها الفيلم ، لم تكن لمجرد الترفيه أو التخفيف من قسوة الفيلم بل ربما كانت تزيد من حدة هذه القسوة و المهم أنها جاءت لتوضيح دوافع الشخصيات و ماضيها و حاضرها و مستقبلها و حملت اسقاطات فى منتهى الروعة مهما حللتها فلن تنتهى ، و جاءت الاضاءة للتعبير عن الاختناق الذى يعانى منه كل أبطال الفيلم فكما ذكرت من قبل فى المشهد الأول ، و هناك أيضا المشهد الذى اختفى فيه النور تماما عندما انطلقت أغنية " مفترق الطرق " ففى هذه اللحظة تكون الصدمة الكبرى لابراهيم و التى يكتشف فيها أن عمه أصبح مجرد سجين فى الأوهام التى وضع نفسه فيها و الأوهام التى وضعته أمه و أخوه فيها ، و تأتى مشاهد " فاطمة " جميعها فى الظلام تقريبا - فى اشارة الى ظلام بعد النكسة - و فى جو خانق تماما سمح لسهير المرشدى باخراج طاقات تمثيلية جبارة ربما لم تظهر لها من قبل فالضغط التى كانت تعيش تحته و الذى وصل الى حد الصمت و عدم القدرة على الفعل سمح لها بالانتقال بين أحاسيس الشخصية فى صمت و هدوء ، و حتى لحظات ثورتها القليلة جدا جاءت مكتومة و غير متوقعة ... تذكر معى مثلا عندما صرخت فى وجه " طلبة " على مائدة الطعام ، ثم ثورتها الأجمل فى نهاية الأحداث وظفت فيه سهير المرشدى كل شىء لديها للتعبير عما هى فيه من : صوت ، نظرات ، وجه ، تعبير حركى ... فكان كل شىء واقعى بدون أن تشعر أبدا أنها تمثل شخصية ما ..... روعة أداء " سهير المرشدى " لا تنفى نفس الصفة عن باقى الممثلين ، لكن وقوفى عندها جاء لأنه الدور الأهم فى مسيرتها و الدور الأبرز و الأفضل و الأجمل على الاطلاق
صلاح جاهين .. سيد مكاوى .. كمال الطويل .. بليغ حمدى .. عبد العزيز فهمى .. رشيدة عبد السلام ... يوسف شاهين ... حقيقة لا أعرف ماذا أكتب فى حقكم ؟ لكن كل ما أستطيع أن أقوله أنى تمنيت أمنية أعلم أنها لن تتحقق و لكنى سأظل أن أتمناها على أية حال ، تمنيت أن أكون بجواركم فى هذا الزمن لأتعرف عليكم و أسألكم : كيف فعلتم هذا ؟ و هل كنتم تعلمون بأن هذا الفيلم سيكون علامة سينمائية خالدة ؟ و هل علمتم أنه سيترك هذا التأثير العظيم فى كل الأجيال القادمة ؟؟ و أنه سيعبر عن الانسان فى كل زمان و مكان ؟؟.... شكرا لكم حقا
فى النهاية ، أنا أقل بكثير من أن أقيم هذا الفيلم أو أن أعطيه درجة لكن عشقى له يدفعنى لأن أكتبها و أنا فى منتهى السعادة و الفخر أنى أكتبها تقييمى للفيلم 10 على 10
عنوان النقد | اسم المستخدم | هل النقد مفيد؟ | تاريخ النشر |
---|---|---|---|
مرآة لكل الأجيال | أحمد أبوالسعود | 6/7 | 1 يناير 2010 |
فيلم لم و لن يتكرر | أحمد أبوالسعود | 5/6 | 8 اكتوبر 2008 |
أمل ووهم | Mohammad Addasi | 0/0 | 16 فبراير 2022 |