لو بصينا لمشهد الحديث بين آندرو وفليتشر في البار (اللي كان زمنه 4 دقايق و14 ثانية) وخدناه كبؤرة أو فيصل للنزعة اللي في تقديري هيا اللي بيدور حواليها العمل ككل وهيا نزعة (المُعاناة في حياة الفنان) ومدى أهميتها وضروريتها.. هانلاقي أن في المشهد ده داميان شازيل بيقول فيه حاجة من الحاجات اللي بتشكل طبيعة (الفن) ذاته وبتميّزه وبتديله خصائصه الفريدة وهيا المُختزلة في الجُملة الشهيرة ان (الفن الحقيقي دائماً ما يأتي من رحم المُعاناة).. ودي هيا في الواقع الفلسلفة اللي بتؤمن بيها الشخصية الفذة الإستثنائية المُقدَّمة من شازيل (تيرينس فليتشـــر) واللي نال عنها (جي كي سيمونز) الأوسكار..
المشهد ده بالنسبالي عبقري في وضع حُججه في وجه المُشاهد وفي توضيح كينونة المبداً ده.. هنا بنلاقي فليتشر بيشرح لنيمان (مِن أين يأتي الفن/تاتي الموهبة الفنيّة حقيقةً).. وان (الغضب) والـ(قهر الذاتي) هو بمثابة وقود بيتغذى عليه الفنان في طريقه الفني/الحياتي.. وبمثابة الشرارة الأولى في تكوين شخصيته (الفنيَّة) الخاصة اللي بتطلع من صميم (الذاتية).. الفن اللي هوا في الأساس فعل تمرُّد من نوع ما .. ورغبة ذاتية في التغيير و(التعبير) بعيد عن القواعد والأعراف والثوابت والمُسمّيات.. فلسلفة فليتشر هيا أنه يُخرج الشرارة دي.. ومن بعديها (الفنان الحقيقي) هايلاقي طريقه ويتشكل وجدانه الفني/الحياتي..
المُعاناة هنا -على حد قول فليتشر- (ضرورة قصوى).. السبب ورا أن نادراً ما بنسمع عن (فنان) كان عايش في المراحل التمهيدية لحياته عيشة رغدة/هنيّة/كويسة مش ان الشخص ده ملقاش اللي يدفعه أو انغمس في الملذات المُحيطة بيه أو أياً كان من العوامل اللي ممكن تتحط في الحُسبان.. المنظور هنا بيتبنّى طبيعة الفن ذاته اللي هوا (وجود نقص) من نوع ما في ذات صاحبها.. وانه بيتشكل نتيجة معاناة وحاجة .. وده الغير موجود في حياة الشخص اللي بيلاقي كل ما يطلبه.. أو على الأقل مافيش رغبة ذاتية حقيقة (اللي ممكن توصل للهوس/الولع في الجهة التانية) عنده في تحقيق حاجة في الحياة.. ده غير الأشخاص اللي المعاناة الحياتية بالنسبالهم (من فقر ونقص لمُقوّمات الحياة الأساسية) كان صميمهم ذاته مش مجرد وقود استغلوه.. أفتكر هنا مثلاً قصة (طه حسين) اللي فقدانه لبصره وفقره العائلي شكلوا بطريقة عجيبة نبوغه في الكتابة. . . . . .
التمثيل للمُعاناة هنا في حياة الفنان جت في شخصية (فليتشر) قلباً وقالباً اللي تشعر في الأول أنه نوع من الإبتلاء الإلهي في طريق الوصول لهدف ما.. قبل ما تتغير الصورة عنه.. فلسفة فليتشر المُتكوّنة من شقين أولهما شق (التسلُّط/الحكم) من جهة.. والتاني نزعة (التنافسية) من جهة أخرى.. اللي هيا نتيجة -ماتقدمتش مُسبقاً يمكن في السينما- للأولى .. التنافس المُباشر بين فليتشر وآندرو هوا الحدث كله في الفيلم.. جُملة زي (not quite my tempo) غرضها الأساسي في النص مش انها تبيّن للمُتعلم (كيفية التعلم) و(طريقة إتباع التعلميات للوصول للعظمة).. لكنها في رأيي مقصودة من فليتشر أنها تُخرج عند المُتلقي نوع من التمرُّد والجزم ان هذا الشخص (لا يفهم شيئاً).. كأن فليتشر بقوله (هذا ليس أسلوبي) يقصد القول (أين أسلوبك؟) أو يأمر (شكّل نمطك/طريقتك/أسلوبك الفني..). . الفيلم ده بيبيّن قد ايه مبداً التنافسية في الحياة عموماً وفي الفن خصوصاً حاجة مهمة . . بيضرب في صميم (قوة تعبير الفنيّة/قوة الشخصية الفنيّة) اللي أي شخص مميز/مختلف/مُتفرد لازم تكون النزعة دي في المقام الأول عنده.. وما بين (الفعل) الحياتي و(رد الفعل) للإنسان بتكمن نقطة التعلم وفهم الذات وبتتشكل الميول والأهداف والأولويات عند اللي هنقول عليه في المرحلة دي (الفنان المُستقبلي).. يعني على سبيل المثال لا الحصر ليه ماتكونش نظرة الجمهور لذات زي (ستانلي كوبريك) أنها تشكلت فنياً نتيجة تمرُّده/عدم رضاه على عدم إلتحاقه بالتعليم الأكاديمي السينمائي بسبب سياسة النظام الأمريكي التعليمي اللي رفضه عشان مجموعه في الثانوية مكانش كفاية.. رد الفعل اللي حصل من كوبريك كان زيادة في النزعة الذاتية اللي كانت عنده أصلاً بدورها ناحية عالَم/مجال ذاتي بالأساس هوا الفن/الفن السينمائي.. ليه مايكونش اعتبرها وقتها نوع من المُنافسة بينه وبين أحد أصدقائه مثلاً (أو ذاته حتى) على وصوله فعلاً لمكان مرموق ؟ .. .. عشان كده البلاد اللي فيها تقدير حقيقي للفن بتهتم إنها تعمل أنشطة مختلفة.. الأهمية الحقيقية فيها هيا (الصبغة التنافسية) دي.. أشياء من قبيل: مُسابقات صناعة الأفلام القصيرة في المدارس.. أو كتابة القصص القصيرة والتقارير العلمية لطلاب الجامعات.. أو تجميع النقاط التعاونية في المُخيّمات (الكشافة) والأنشطة الصيفية.. وكلها بيكون ليها جوايز مُغرية وتقيلة مش أي كلام .. حاجات مش المهم فيها الإحساس بتميُّز الشخص الفائز قد ما المهم ان الخاسر يحس فيها ان (غيره أفضل منه).. في (ويبلاش) هنا الشكل مكانش تنافسي/مُجتمعي آه لكنه كان صورة تكاد تكون مثالية لتنافس شخصين عنيدين كل واحد فيهم عايز يفرض وجهة نظره/مبدأه/كلمته على التاني. التنافسية هنا ممكن تكون بالنسبة للكثير من المُشاهدين/المُحبين للفيلم هيا لُبَّ العمل الرئيسي أو (الشئ/التيمة) اللي هتيجي في الذهن أول حاجة إذا ما سأل أحدهم (عن ماذا يدور هذا الفيلم؟)
. . . . .
هنا في الفيلم ده فكرة (to be or not to be) مش موجودة في قاموس شازيل بالأساس .. هيا موجودة بشكل (do or die) .. فكرة (الموت) -الرمزي طبعاً- دي هيا الدافع والمُحرك في حدوتتنا.. شخصيتنا عايزه تكون عظيمة وخالدة (أو) ولا شئ: فانية منسيّة ميّتة. . . في حاجة هامشيّة كده في القصة أخرجها شازيل يمكن تحديداً عشان توضح فكرته ومبدأه وفلسفته دي.. وهيا قصة (شون كايسي) اللي ماتعرفش في الحقيقة سبب موته لأنه مش مُهم في الأساس للقصة لكنه يمكن مهم جداً في البُعد الرمزي ليه.. شون (وهوا واحد من طلاب فليتشر فيما قبل) اتقال مرة على لسان فليتشر أنه مات بسبب (حادثة سيارة) ومرة تانية على لسان القاضية ان سبب موته هوا (الإنتحار) بعد ما شنق نفسه كنتيجة لإكتئابه بعد معاناته النفسية من فلسلفة (فليتشر).. مش مهم نعرف سبب موته في الحقيقة (واللي تبقى تابعة هنا لماضي شخصية فليتشر اللي النص غير مهتم أنه يتوغل فيها) لكن مهم نفهم ليه أتذكرت تيمة (الموت) لما جيه الحديث عن (الفن) ..أو عن (مُحاولة الوصول لشئ) ضمن فسلفة شازيل .. .. جملة (killed himself) كفيلة أنها توصّل في مغزاها الغير مُباشر في المبدأ المؤمِن بـ(كل شئ أو لاشئ).. حتى لو (لا شئ) كانت معناها في حياة الفنان فتك روحه بنفسه.. .. نرجع تاني لمشهد البار اللي بيعبر عنه شازيل في مقولة فليتشر اللي صعبة تتنسي لما نيمان بيوجهله سؤال (مش المُبالغة/التشدد ده ممكن يأثر على الفنان ويخليه يستسلم؟) قبل ما يرد عليه: (لأ.. لأن الفنان الحقيقي عُمره ما هايستسلم فعلاً) ..
في مشهد آخر بيؤكد كلامي ده وهوا إعادة ذكر تيمة (الموت) في الحديث العائلي على مائدة الطعام.. اللي وسط غربلة الكلام كده بيقول نيمان مقولته الشهيرة (أُفضِّل أن أموت في سن الـ43 والناس تتكلم عني على طرابيزة السُفرة على إني أموت في الـ93 ومحدش يفتكرني)..
في جُملة شهيرة بتقول "إذا أردت أن تنجح في شئ لا بُدّ أن تكون رغبتك في النجاح (أكبر من) خوفك من الفشل".. في رأيي الفنان الحقيقي عدّى المبداً ده وبقت بالنسباله فيه نوع من الموازنة بين أنه يكون مدفوع برغبه شخصية وهوس ذاتي تجاه حلمه في الأساس .. وبين خوف رهيب وعدم قبول ذاتي بحت بإنه يكون في المرتبة التانية أو التالتة.. لأن اللي عايز يكون (فنان حقيقي) -أو بارع في مجاله عامةً أياً كان- هايحب ويحترم يخلص ويكون مُمتن بوجود شخصية زي (فليتشر) في حياته.. شخصية ممكن تكون في عين الأغلبية قاسية وعاهرة وأكيد (غير مُحترمة) ! .. حتى ولو كان في لحظة ما من لحظات الحياة/الفيلم الفنان ده كان عايز يقتل مُعلّمه بكل جوارحه وبكل ذرة غضب في كينونته.. قبل ما يقدَّر -فيما بعد- قيمته واللي بناه فيه.. .. مع كل مُشاهدة للفيلم ده بقيت -بشكل أو بآخر- بقدَّر قيمة المعاناة في سبيل الفنان .. أهمية القسوة والشدة والإلتزام والإنضباط الحياتي والمُعاقبة القسرية اللي بيفرضها المُعلم على المُتعلم.. .. مافيش حاجة في حياة الفنان المُخلص أمَرَّ من المستوى العادي/المقبول .. مافيش -على حد مقولة فليتشر في الفيلم- جُملة في اللغة الإنجليزية أكثر قسوة من (عملٌ جيد)..
عنوان النقد | اسم المستخدم | هل النقد مفيد؟ | تاريخ النشر |
---|---|---|---|
رؤية ومنظور فيملي: عن مدى أهمية (المُعاناة) في حياة الفنان.. | Hossam Waleed | 0/0 | 2 سبتمبر 2017 |
Whiplash: صراع المعلم الأفضل والتلميذ الأمثل | دكتور رامي الخطيب | 1/1 | 8 مارس 2015 |
الصراع من اجل النجاح | Mohamed Reda | 0/0 | 11 اكتوبر 2015 |