فرغنا ليلة البارحة من مسلسل "التغريبة الفلسطينية 2004" للثنائي الرائع د.وليد سيف وحاتم علي، ورَجوتُ لو أنَّه امتدَّ زمنًا، 31 حلقة تصوّر أهوال كارثة فلسطين، الأرض التي ارتوت تربتها من دماء الشهداء الأطهار وأنبتت خضرتها من مدامع الأبرياء أطفالًا ونساءً وشيوخًا، لا يمكن لعمل درامي أو سردي أن يصف الحالة كما هي ويحيط بشروطها الكاملة؛ فضلًا عن أن يحلل كافة أسبابها، لكننا هنا مع قصة التغريبة الّتي ستتحدث عنها أجيالًا التقطت الصورة وعاشت الحقبة، نحن مع عمل ملحمي ميَّزه قلمُ روائيٍ ساحرٍ وعينُ مخرجٍ...اقرأ المزيد عبقريّ، جاءا ليحكيان لنا مأساة فلسطين وبسالة أهلها بعد زهاء قرن على بداية الكابوس الّذي بدأ مع (الِانتداب البريطاني الملعون 1917)، والعمل يُغطّي فترة تاريخية تمتد من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى تاريخ حرب 1967 المعروف بِاسم (نكسة حزيران)، حاول من خلال حلقاته الـ31 أن يصوّر الحالة الفلسطينية الشعورية بانوراميًا، ويوثّق طغيان الصهاينة والإنجليز، وما أعملوه بأهل الأرض من الذبح والتقتيل والتشريد وتمزيق الأرحام والإفساد في الأرض بكافّة ضروبه ومراحله، كل ذلك ينطلق من قصة قرية ريفيّة وعلى لسان أحد أبنائها (علي الشيخ يونس). يعرض العمل ثنائيات كثيرة عاشها النّاس وتبنّوها؛ كالحلم والوهم، الواقع والكابوس، والأمل واليأس، والجهاد والخيانة، والفداء والأنانية، وقد ترك مشاهدًا مؤثرة لا تُنسى، بَسالة المجاهدين وفدائهم، واجتماع الأم بِابنها بعد اغتراب طويل، والبكاء المرّ على فراق الأرض والدور، والجهل والجشع الّذي أدى كل منهما أغراضه في اقتتال الإخوان بين بعضهم وزرع الفرقة والخلاف. خبَرَ المهجَّرون ظروفًا أماتت فيهم أشياء وأحيت أشياء وصلوا إلى أسفل قاع العشوائية والبؤس. - مقتطفات نصيّة رائعة من المسلسل، هذا (علي) يرثي أخاه (أبو صالح): "رحل الرجل الكبير، وتركني بعده أتساءل عن معنى البطولة.. لن تُعلِن خبر وفاته الصحف والإذاعات، ولن يتسابق الكتّاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبًا يموت آخر الشهود المجهولين؛ آخر الرواة المنسيّين.. أولئك الذين عرفوه أيّام فتوّته جوادًا برّيًا لم يُسرج بغير الريح. فمن يحمل عبء الذاكرة؟ ومن يكتب سيرة من لا سيرة لهم في بطون الكُتب؟ أولئك الّذين قسّموا أجسامهم في جسوم الناس، وخلّفوا آثارًا عميقة تدلّ على غيرهم.. ولكنّها لا تدلّ عليهم!". - يكتب (علي) عن مشاعره بين الريف والمدينة: "كان علينا أن ننتظر طويلًا حتّى تنأى بنا الدنيا عن تلك المطارح إلى مدن الإسفلت والإسمنت التي لا يعشش فيها اليمام ولا تصهل فيها الخيول ولا يطوف في أجوائها دخان القرى ورائحة "الطوابين"، لندرك في وقت متأخر قيمة الاتصال المباشر بمصادر الطبيعة الأولى.. ثم مع تطاول الزمن وغياب المشهد القديم، صارت تلك الصور الريفيّة الجميلة أوّل ما يضيء في الذاكرة فنقع في وهمٍ أشدّ بُعدًا عن الحقيقة من أوهام الطفولة البريئة، حين يتواطأ الحنين على طرد صور الشقاء الذي كان يحاصرنا من كل جانب في ذلك الفردوس المفقود". - (علي) يرثي أخاه (حسن) بكلمات مؤثّرة تسيل عذوبة: "حسن، ذلك الشاب النبيل الذي قاسمني وقاسمته عمر الطفولة وشراع السنديان، ذلك الطفل، عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الماء.. كنت أتعلم لغة الكتابة وقواعد النحو حينما كان يتعلم لغة النهر، والصخر، والسنبلة، كنت أمتطي المعجم حين كان يمتطي الريح والعواصف، كنت أكتشف الأسئلة حين كان يعيش الأجوبة، كان يظن أني الجزء الذي لم يكنه، والآن أعرف أنه الجزء الذي لم أكُنه. هناك في مكان ما أجهله وتعرفه النجوم، يرقد أخي حسن.. يلبس جلد الأرض التي أحبَّها ويستعير منها نبضه الجديد. أنا هنا أبحث عن الوطن الضائع في موال شعري، وهو هناك يكتشف الأرض فيه. على عينيه ينمو عشبها وزعترها، ومن جرحه تتفتح شقائق النعمان وعروق الشومر البري. هناك هو، تكتبه الأرض وتعيد كتابته في كل فصل من فصولها؛ وأنا الذي سرقت منه الكتابة، والمدرسة، والمحبرة، أنا هنا أبحث عن الكلمة التي تصفه، أستعير جلده لأكتب عليه شعري فيه، ولأشعر ببعض الرضا لعلي أتابع حياتي من جديد.. حسن أيها الشاب النبيل الذي ظلمناه وأنصفته الأرض". - أعتقد أن في النّصين التاليين، وقد ارتبطا في قضية فلسطين؛ الكثير من المعاني الّتي يطيب تأملها: لا تَسلْ عن سَلامَتِهْ روحُهُ فَوقَ راحَتِهْ بَدَّلَتْهُ هُمومُهُ كَفَنًا مِنْ وِسادَتِهْ يَرقُبُ السَّاعةَ الَّتي بَعدَها هَولُ ساعَتِهْ شاغِلٌ فِكرَ مَنْ يَراهُ بإِطراقِ هامَتِهْ بَيْنَ جَنبيْهِ خافِقٌ يَتَلظَّى بِغايَتِهْ مَنْ رأى فَحْمَةَ الدُّجَى أُضْرِمَتْ مِنْ شَرارَتِهْ حَمَّلَتْهُ جَهَنَّمٌ طَرَفًا مِنْ رِسالَتِه فادَّعى جَوفُ نارِها أَنَّها مِنْ جِمالَتِهْ هُوَ بِالبابِ واقِفُ والرَّدى مِنهُ خائِفُ فاهدَأي يا عَواصِفُ خَجَلًا مِنْ جَراءَتِهْ صامِتٌ لَوْ تَكَلَّما لَفَظَ النَّارَ والدَّما قُلْ لِمَنْ عابَ صَمتَهُ خُلِقَ الحَزمُ أبْكَما وأَخو الحَزمِ لَمْ تَزَل يَدُهُ تَسْبِقُ الفَما لا تَلوموهُ قَـد رأى مَنْهَجَ الحَقِّ مُظلِمًا وبِلادًا أَحبَّها رُكنُها قَـد تَهدَّما وخُصومًا بِبَغْيِهِمْ ضَجَّتِ الأَرضُ والسَّما مَرَّ حِينٌ فَكادَ يَقتُلهُ اليأْسُ إنَّما هُوَ بِالبابِ واقِفُ والرَّدى مِنهُ خائِفُ فاهدَأي يا عَواصِفُ خَجَلًا مِنْ جَراءَتِهْ (للشاعر: إبراهيم طوقان، قصيدة "الفدائي" ولها قصة تاريخية) أيُّها المارُّونَ بَينَ الكَلماتِ العابِرَة احمِلوا أسماءَكمْ وانصَرِفوا وَاسحَبوا ساعاتِكُم مِن وَقتِنا، وانصَرِفوا واسرِقوا ما شِـــئتُمُ مِن صُـوَرٍ، كَيْ تَعرِفوا أنَّكُم لَنْ تَعرِفوا كيف يَبني حَجرٌ مِن أرضِنا سَقفَ السَّماء أيُّها المارُّونَ بَينَ الكَلماتِ العابِرَة مِنكُمُ السَّيفُ - وَمِنَّا دَمُنَا مِنكُمُ الفولاذُ والنَّار- وَمِنَّا لَحمُنا مِنكُمُ دبَّابَةٌ أُخرى- وَمِنَّا حَجرُ مِنكُمُ قُنبُلَةُ الغاز - وَمِنَّا المَطَرُ وعَلينا ما عليكُم مِن سَماءٍ وهَواءْ فَــخُــذوا حِصَّتَكُم مِن دَمِنا وانصَرِفوا وادخُلوا حَفلَ عَشاءٍ راقِصٍ.. وانصَرِفوا فَعلينا نَحنُ، أنْ نَحرُسَ وَردَ الشُّهَداء وَعلينا نَحنُ، أن نَحيا كَمَا نَحنُ نَشاء أيُّها المارُّونَ بَينَ الكَلماتِ العابِرَة كَدِّســـوا أوهامَكُـــم فـــي حُفـــرَةٍ وانصَرِفوا وأَعــيـــدوا عَقرَبَ الوَقتِ إلى شَـــرعيَّةِ العِجلِ المُقدَّس! أَو إلى تَوقيتِ موسيقى المُسدَّس فَلَنا ما لَيسَ يُرضيكُم هُنا، فَانصَرِفوا وَلَنا ما لَيسَ فيكُم: وَطَنٌ يَنِزفُ شَعبًا يَنزِفُ وَطنًا يَصلُحُ للنِّسيان أو لِلذَّاكِرَة أيُّها المارُّونَ بَينَ الكَلماتِ العابِرَة آنَ أنْ تَنصَرِفوا وَتُقيموا أينَما شِئتُم ولَكِن لا تُقيموا بينَنا آنَ أنْ تَنصَرِفوا وَتَموتوا أينَما شِئتُم ولَكِن لا تَموتوا بينَنا فَلَنا في أرضِنا ما نَعَملُ وَلَنا الماضي هُنا وَلَنا صَوتُ الحَياةِ الأوَّلُ وَلَنا الحاضِرُ، والحَاضِرُ، والمُستَقبَلُ وَلَنا الدُّنيا هُنا .. والآخِرَة فاخرُجوا مِن أرضِنا مِن برِّنا .. مِن بَحرِنا مِن قَمحِنا .. مِن مِلحِنا .. مِن جُرحِنا مِن كُلِّ شَيءٍ، واخرُجوا مِن مُفرَداتِ الذَّاكِرَة أيُّها المارُّونَ بَينَ الكَلماتِ العابِرَة (للشاعر: محمود درويش، قصيدة "عابرون في كلامٍ عابر")