يعاني الخطاب السينمائي العربي من نواقص فنية وتقنية، تنحيه عن دائرة الاهتمام وتصفّه جانباً في المهملات أو المستغنى عنهم، وهذا ناجم عن غياب صناعة -حرفة- سينمائية عربية حقيقية من جهة، وانعدام التخطيط الإستراتيجي الواضح والفعال لقطاعات السينما في البلدان العربية، والذي يفترض أولا الانحلال من قيود الأنظمة العربية -الشمولية- التي تحكم الوطن العربي، إذ تبدو السينما في كل بلد عربي انعكاساً لفلسفة سياسة هذا النظام أو ذاك من جهة ثانية، أو قل عدم وجود الوعي السينمائي متمثلا بغياب الدور الإعلامي رغم التطور...اقرأ المزيد المذهل في وسائل الإعلام -صحافة وتلفزيون- من جهة ثالثة. ورغم ركام الأفلام التجارية -المهيمنة- تبرز بين الفينة والأخرى مشاريع جادة تمثل استعادة الروح إلى الجسد، وهي ما تشد أزر الناقد أو الدارس لمحاولة الكتابة عن هذه الأفلام واستلهام ما بها من فرادة وإبداع فني خاص، لا سيّما وان بعض هذه الأفلام تعد - نخبوية- تخصص للعرض في المهرجانات السينمائية! (قمران وزيتونة).. الانفلات من أغلال القهر يمكن اعتبار تجربة المخرج السوري (عبد اللطيف عبد الحميد) من خلال مجمل أعماله:- (ليالي ابن آوى- 1989) و(رسائل شفهية- 1991) و(صعود المطر-1995) و(نسيم الروح- 1998) و(قمران وزيتونة- 2001) و(ما يطلبه المشاهدون-2003). تمثلا صادقا ونموذجا مصغرا، ومركبا، لطبيعة الانفصال الرؤيوي بين منطق السوق والربح التجاري، وما يفرضه شكل الخطاب السينمائي العربي المتحضر، الذي يفلت من أغلال المجتمع -الأمُي نسبيا- ليحاكي وبرؤية فوقية من لهم دور ريادي فيه، وهي محاولة -اعتقد- لم يكتب لها النجاح ضمن اطر خطاباتنا العربية عموما، وعلى صعيد سينما المشرق العربي خصوصاً. يتسم أسلوب (عبد اللطيف عبد الحميد) بالإغراق في البيئة الاجتماعية البكر في الريف السوري الساحلي، وعمقه، بكل تفاصيله الموغلة في البراءة والعفوية، والواقعة على بوابة تهديد المدنية باقتحامها وتفتيتها. ثم إن الأطفال يلعبون دورا فاعلا في أفلامه، ويحملهم ضمنا دلالات وقيما فكرية، أو يؤدلجهم في محاولة لصب جام غضبه على السلطة وهو في ذات الوقت هروب من المواجهة، ثم إن المرأة شكلت سمة غالبة في مجمل أعماله، فتارة يقدمها بصورة سلبية وبحضور هش، وخجلة مما تفعله أمام ابنتها، كما في فيلمه (صعود المطر)، وتارة قوية وصلبة، كما في فيلمه (ليالي ابن آوى)، وثالثة مهزوزة إزاء انتظارها حضور زوجها العسكري، كما في فيلمه (رسائل شفهية). وفي ظل رؤية من هذا الطراز، فان سينما (عبد اللطيف عبد الحميد)، تحاول تطبيق المفاهيم النظرية، وإسقاطها على المكان-البيئة- حتى لو انه لم يستجب لها، فهي من جهة أولى محاولة لكشف أشكال التعبيرات الحياتية، اليومية، بما فيها من أدوات عيش وعمل، وطريقة حياة وسكن وتواصل، ومن طرق لباس وأزياء، وأشكال التعبير عن الفرح والحزن، الموت والأولاد، الحضور والغياب، وتتالي فصول السنة، وما تتركه الطبيعة من اثر فاعل ومتفاعل مع الإنسان في إطار بيئته...وأشكال التعبيرات ما فوق اليومية، من تكون بلاغي، بدءا من اللهجة ذاتها بنبراتها النابعة وأحاسيس الناس، التي تولدت من تاريخ نفسي اجتماعي عميق الجذور، وما صيغ عبرها من تعبيرات إبداعية من موسيقى وأغاني وشعر ورقص وطقوس. كما إنها من جهة أخرى، سينما متوافقة شكليا وعضويا مع ما تذهب إليه مضمونيا، إذ لا يتقاطع الشكل الفيلمي مع مضمونه، فسينما (عبد اللطيف عبد الحميد) بطبيعتها سينما ذكية من طراز السهل الممتنع، تتوجه إليك مباشرة، دون أدنى شك ولو للحظة إنها بعيدة أو ليست منك. وانطلاقا من المشهد الافتتاحي يتبدى لنا جليا الثيمة المحورية التي يريد المخرج معالجتها، إذ انه يؤكد على الصداقة كقيمة وحيدة منقذة من آلام الوجود وتعاسة المكان، وكذلك الحب الذي هو جوهر الحياة ومحورها وبدونه ستتحول الحياة إلى مطحنة تسحق كل ما هو روحي وجميل فينا، ويبرز هذا عبر الثلاثي، الولدان (عادل) و (سعيد) والفتاة (أميرة) رغم الواقع القاسي. يقدم المخرج من خلال هذا المشهد -الافتتاحي بالطبع- (عادل) وهو يركض تجاه القمر، الذي تغطيه الغيوم، بعد ذلك ينتقل إلى عالم الفيلم أو البيئة المولدة، بعد ظهور كلمة (الستينات)- ذات الدلالة السياسية-، فهناك (عادل) وأخته (أميرة) وأبوهما المشلول كليا اثر الحرب مع إسرائيل عام 1948، وهناك الأم التي تعاني من الحرمان الجنسي والوحدة، والتي تتحول بفعلهما إلى امرأة قاسية القلب تعاقب ابنها اشد العقوبة لأنه يرضع إصبعه، وكذلك تعاقب الأخت لأنها تتعاطف مع أخيها فتحلق للاثنين شعرهما كليا. وفي إطار التأكيد على القيم المعنوية، يبرز الولد (سعيد) الذي تجمعه علاقة صداقة حميمة بـ (عادل)، ويشكل الاثنان الجزء الأول من عنوان الفيلم الـ (فمران)، واللذان يلهثان وراء اللعب أملا في الانطلاق والحرية، وهناك الجزء الآخر من العنوان الـ(زيتونة) أو (أميرة) أخت (عادل) التي تتمنى الحياة بمزيد من الحرية والدفء العائلي والتخلص من القيود. وهذه اشد لحظات الفيلم تفجرا، إذ نجد إن المخرج اخذ نتوءا عصابيا صغيرا عند احد الأولاد، وانطلق منه لبناء عالم كامل، عابق بالأحداث، والتعبيرات القيمية التي تنطلق من لدن الأولاد لتصل إلى بناء وطن، إذ يترك حلق شعر (عادل) أثرا عميقا في نفسه، لكنه لا يتوانى عن تكرار عادته كلما سنحت له الفرصة، وفي اشد وأحلك المواقف، من هنا فان معلم المدرسة الوحيد -الذي يدرس جميع المواد لصفين في وقت واحد- يطرد الاثنين من المدرسة. وقد نجح (عبد اللطيف عبد الحميد) في هذا الفيلم في مناقشة أصعب الموضوعات السينمائية -الحرية- دون خدش حياء المشاهدين، كما أكد على ضرورة العلم والتحصيل الدراسي، لمواجهة الأفكار المتشددة، وللتخلص من قيود الماضي بدل الهجرة والهروب، وذلك من خلال مشهد النهاية، الذي يقرر فيه (عادل وسعيد) الذهاب إلى المدرسة مؤدين تحية العلم. والملفت للنظر في هذا الفيلم تفاؤله الواضح، رغم الفقر والقهر والجوع والحرمان والبرد والعنف، الذي يعيش وسطه الأولاد، ويسمح فيلم (قمران وزيتونة) الذي يشع بنظارة الدفق الإنساني، بعدد من القراءات في كل مشهد منه وأحيانا يعكس التوقعات ويصور أناسا إنسانيين رغم قساوة واقعهم مثل سائق الشاحنة التي يستقلها (سعيد) للعودة إلى القرية، إذ يهرب من بيت أخيه في المدينة حيث أودعه والده هناك بعد أن طرد من المدرسة. مثل هذه القراءات، والتي هي مجمل خطاب الفيلم تعلن صراحة عن فقدان الحرية في المجتمعات العربية، تارة نتيجة ارث الماضي، وتارة أخرى نتيجة استبداد الأنظمة، فيؤثر المخرج الحكمة للتعامل مع الأفكار المتسلطة وتوظيفها للخلاص من الأخطار التي تواجه الأمة العربية، ونتيجة لذلك فانه يستخدم لغة الأطفال وبراءتهم لتمرير مثل تلك الأفكار إزاء التأكيد على معاني الحب والصداقة والعلم، ولتكون رسالة الفيلم واضحة إلى الكبار بالإضافة إلى كونه فيلما يداعب أحلام الصغار. ويتضح من كل هذا، إن الفيلم وبتركيزه على المضامين الفكرية المتجلية بالدرجة الأساس في الموضوعة، فانه للأسف أهمل الكثير من المقومات الدرامية الفنية السينمائية، التي كان لها شان في الرفع من قيمة الفيلم، فلقد اغفل الكثير من المبررات الدرامية، وتركها هكذا! دون أن يمر عليها ولو مرور الكرام، فمثلا من أين جاء اهتمام (عادل) بالقمر؟ ولماذا يريد أن يصبح قمرا، أو ما هي عيوب ظاهرة مص الإصبع التي تستدعي مثل تلك العقوبة الصارمة، وتكون هي مشكلة الفيلم الرئيسة، وما علاقة الإصبع ومصه بالشعر؟ أو اثر لعبة -الجمرة- المعلقة بخيط والتي افرز لها الفيلم حيزا كبيرا من المشاهد وصورها من جميع الزوايا ومن مختلف الجهات، أم مثل تلك الأفكار رغم أهميتها في داخل السياق الفيلمي، إلا إنها ستكتسب أثرا فاعلا آخرا لو قدمت بصورة أكثر عمقا ووضوحا. ثم إن بناء الفيلم دراميا عانى من مشكلة النمطية والرتابة، فجاءت مشاهده تسير وفق خط درامي واحد، لا اثر فيه لتفجرات درامية عميقة، عدا بعض الاستخدامات التي أجدها خيالية ومفتعلة كمشهد رقص الأولاد تحت المطر. واجد من كل هذا إن فيلم (قمران وزيتونة) احد الأفلام العربية المتميزة في موضوعها الإنساني الجميل، رغم وجود بعض الهنات هنا أو هناك.