أراء حرة: فيلم - السقا مات - 1977


فلسفة الموت والحياة

الواقعية لغة غزل اتخذها الرائع المصري صلاح أبو سيف ليحاكي كل ما يحيط بينا من خلال لقطات أقرب إلى الحقيقة، تلامس الواقع بشكل كبير موضحا من خلالها مدى التأثير على المجتمع، والحياة بصفة عامة وذلك من خلال التغلغل بشكل خاص في الحياة الشخصية لأبطال العمل. فمن خلال فيلم (السقا مات) والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير (يوسف السباعي) حاول أبو سيف أن يقدم صورة مصرية بسيطة يتناول فيها الواقع المصري خلال العقدين العشريني والثلاثيني، فمن بطولة عزت العلايلي وفريد شوقي والفنانة المتميزة شويكار،...اقرأ المزيد والعظيمة أمينة رزق تدور أحداث الفيلم في حي الحسينية بعام 1921 حول فكرة الموت والحياة حيث المعلم شوشة (عزت العلايلي) الذي يستبد به الحزن لفراق زوجته بالرغم من مرور وقت طويل على وفاتها وأثناء تخبطه بالحياة ودروبها يتعرف على مطيباتي الجنازات شحاته أفندي (فريد شوقي) الذي يحاول أن يخرجه من حزنه الدائم بعد مشاركته السكن. ومحققا في نفس الوقت أقصى درجات الملذات الحياتية. مبدئيا تدور الفكرة الرئيسية التي تناولها يوسف السباعي في روايته حول فلسفة الموت والحياة والتشاؤم والتفاؤل، وقد صدرت الرواية عام 1952 عن دار النشر للجامعين وتم اختيار الفيلم ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية ويذكر أن المخرج صلاح أبو سيف حاول مرارا وتكرار تحويل الرواية إلى عمل سينمائي ببداية السبعينات إلا أن العديد من المنتجين خافوا من إنتاجها خاصة أنها تتحدث عن الموت ليأتي يوسف شاهين الذي أعجب بالفكرة وقرر إنتاجها بالاشتراك مع الشركة التونسية (ساتبيك) عام 1977 . وبالرغم من أن المحور الرئيسي للفيلم يتناول فكرة الموت إلا أننا نلاحظ أنها تميل إلى الرومانسية في بعض الخطوط الفرعية حيث قصة الحب الأبدية التي يعيشها المعلم شوشة على ذكرى زوجته. أيضا نجد أن صلاح أبو سيف يزج بالاشتراك مع السينارست محسن زايد ببعض الملامح الأخرى الفلسفية ونقطة الحاجة وهل الاحتياج مبرر للسرقة؟ وكل ذلك من خلال خاصية الارتجاع الزمني التي تميزت بها أحداث الفيلم، بالإضافة إلى تسلسل بسيط في الأحداث وعدم التعقيد في البناء الدرامي والتتابع السردي المطلوب في مثل هذه النوعية من الأفلام. ومن قرأ الرواية يجد أنها تختلف قليلا عن أحداث الفيلم خاصة في النهاية حيث حاول كاتبي السيناريو تغيير النهاية بدفع قدر من التفاؤل البسيط كما حاولا أيضا أن يجعل الأحداث تدور كلها في الحاضر بخلاف الرواية التي تدور أغلب أحداثها في الماضي. ومن المعروف أن صلاح أبو سيف اشترك مع الكاتب محسن زايد في كتابة فيلم (حمام الملاطيلي) عام 1973 والذي لاقى انتقاد كبير من قبل الجمهور للجراءة التي اتخذها أبو سيف في عرض مشكلة الشذوذ الجنسي والدعارة. أما بالنسبة للأداء التمثيلي فاعتقد أن أبو سيف نجح بشكل كبير في اختيار أبطال فيلمه حيث فريد شوقي في دور شحاته أفندي والذي أرى أنه كان من أفضل الأدوار التي قدمها الملك على الإطلاق، أيضا دور الفنان عزت العلايلي الذي أثبت من خلال تعبيرات وجهه الحزينة موهبته الفنية الكبيرة، وعبر بحساسية خاصة وأداء مركب عن حالته النفسية الصعبة. وإذا كان صلاح أبو سيف هو قائد السفينة والربان الذي حقق بفيلمه (السقا مات) إنجازا فنية كبيرا؛ فلابد من الإشادة بديكور المهندس مختار عبدالجواد الذي عبر من خلاله عن جو العشرينيات وعن الحارة المصرية، والطراز الإسلامي الفريد الذي حاول مختار أن يضفيه على جو الفيلم، ولابد أيضا من الإشادة بحرفية المونتير رشيدة عبدالسلام والانتقال بين اللقطات بشكل سريع ومتلاحق دون حدوث أي ترهلات إيقاعية وقد تجلت أفضل المشاهد في الانتقال بين الماضي والحاضر وذكريات المعلم شوشة بطريقة سلسلة وسهلة والكثير من المرونة . يعد الفيلم من أهم الأفلام الروائية الطويلة التي انتجت في فترة السبعنيات.


أطفال الحارة: أبوك السقا مات .. بيمشي بالجنازات

يلقب المخرج صلاح أبو سيف بشيخ الواقعية، فقد كان مغرما بنقل الشوارع والحارات والوجوه العادية بأحداثها البسيطة وغير المهمة بعد أن يعمل على جانبها الفني لتبدو أكثر واقعية على الشاشة، في السقا مات تبدو مضطرا لتبحث عن الواقعية في مشاهد في فيلم السقا مات أو في شخصياته وبين طيات أحداثه البسيطة، ولكن في الفيلم شيئا آخر لا تبدو الواقعيه مهمة مقارنة به، الفلم يقدم بحثا متوسط العمق في الموت عبر عدة شخصيات عاشوا بالقرب منه وأختبروا أعراضه الجانبية كالفقد أو الحزن أو صعوبة التكيف مع الحياة بعد وفاة أعزاء،...اقرأ المزيد ويجنح الى الطرافة بتقديم نموذا متمردا مقبلا على الحياة وساخرا من فكرة الموت لدرجة يعمل فيها مشيعا محترفا ولكن من سوء حظ هذه الشخصية أن الموت يداهمه في أكثر لحظاته سعادة في رمزية الى السطوة الخفية التي يمتلكها الموت ولا يجد الأحياء وسيلة لإيقافه أو التنبوء بالساعة التي يحل بها. رغم التناقض الظاهري بين السقا الذي يوزع المياه أو الحياة وبين متشرد آفاق يعمل كمشيع رسمي للأموات تنعقد صداقة إعتباطيه بين الرجلين، ويعمل الفيلم على هذا المزج بين الموت والحياة لتقديم نموذجا فنيا يحمل قيمة فلسفية في نظرته الى الموت والحياة، المعلم شوشه السقا غارق في أحزانه بعد خصومة شديدة مع الموت الذي خطف زوجته الحبيبة، يستسلم لعملية توزيع المياه الشاقة على طالبيها، وغارقا في ذكرياته اللزجة مكتفيا بقضاء الأمسيات قرب النافذه مع سيجارة وغمامة كثيفة من الدخان في وفاء مبالغ فيه بالنسبة لفترة العشرينات التي يقدمها الفيلم، أما شحاته مشيع الأموات فشخصية مرحة ذكية بخلفية حكيمة قادرة على قلب الأحداث الكئئيبة الى كوميديا، يتنازل المخرج صلاح أبو سيف عن طبعه الواقعي ليعقد صداقة بين هذين الشخصين المتعالين عن الواقع. الواقعية في هذا الفيلم في إجتهاد المخرج لإظهار الحارات والأزقة والألبسة وبعض االأسماء يظهر شعارات سعد زغلول على الجدران و أزدهار مهنة السقا، أما الحدث الرئيسي فمكانه كتب الحكمة القديمة وحوارات الموت والحياة الطويلة، لا يقو شحاته على فرملة نفسه في إقباله على الحياة بالمعنى الغرائزي الذي يشبع فيه حواسه المادية، الطعام الدسم الوفير، والمزاج المعبأ بقطع المخدرات المسروقة أو المستلفة، وللنساء الدور الرئيسي عند شحاته الذي فرغ نفسه ليحظى بليلة واحدة مع عزيزة عاهرة الحي الجميلة، يفرط في الركض وراء كل قطعة نقد تافهة ليجمع النقود التي طلبها القواد، فيما يبدو المعلم شوشة غير متأكد من وجوده على قيد الحياة فلا ينتبه الى تربية ابنه الذي يتنقل بين مدرسة الكتاب والعمل على عربة نقل المياه، ولا يلتفت الى "تحرش" بنت الجيران اللذيذة التي تحتج بالطبخ لتتقرب منه، وفي سهرة فريدة يقدم فيها شحاته الحياة للمعلم شوشة بالطريقة التي يعرفها وهي إبتلاع المخدر فتنجح الخطة ويخرج شوشة من ثوب الموات الذي يرتديه ويبدأ بتدوير عينيه في الفضاء الواسع أمامه. تصفع الحياة شحاته فلا يكمل ليلته بالطريقة التي خطط لها ويموت وهو ينتظر لقاء عاهرته الجميلة أما شوشة فتصفعه السنوات العشر التي أرتسمت على شكل خطوط زمن متعب على وجهه فيستيقظ متأخرا نافضا جلابيته من ماضية الكئيب، ويكافئة المخرج صلاح ابو سيف على صبره بمنصب مدير الحنفيه ليحل محل المدير السابق الفاسد ليكون رجل الحنفية النزية الذي يحترم الدور ولا يجامل ساقطات الحي في توزيع المياه. أحب المخرج شخصيتيه الرئيسيتن الممثلتين للحياة والموت، فصورهما من زوايا مشرقة، بدا النصاب لطيفا وتعاطف مع الكئيب وبرر حزنة وتجهم وجهه، كما قدم مقالب النصاب على أنها قفشات مرحة، فنجح في جعلها تتحالف مع الجمهور المتلهف لملاحقتهما، فكان حزينا بموت شحاته وسعيدا بمنصب شوشة الجديد، لم تبدو الشخصيتان متناقضتان رغم تموضعهما المتضاد، قدم أحداهما للموت دون أن تذوق طعم الحياة وابقى الثانية في الحياة دون التلذذ بطعمها، كان دور الطفل سيد طويلا بدون مكان درامي مناسب ومن الممكن حذفة دون تأثير كبير أما أمينه رزق فكانت في منتهى الجمال في دور عمياء لطيفة تبصر من أطراف أصابعها، السقا مات واقعية مقبولة وحكمة لا نستطيع تبنيها وقصة يمكن مشاهدتها والتعاطف معها.