أراء حرة: فيلم - خريف آدم - 2002


خريف آدم .... و الربابة الباكية .

قصة الفيلم عبرت عن الحب والموت، الخوف والتردد، السحر والوضوح، العجز والاقتحام، التأثر من الهزيمة والانكسار في عالم اختلطت فيه المفاهيم. إنها بعض المفردات العاجزة عن التعبير في مواجهة فيلم «القيوبي»، «خريف آدم»، تلك المرثية التي تقطر شجنا وشاعرية عن الوطن والاحلام الصغيرة والاحباطات المتتالية، إنه فيلم العجز العربي المرعب مختزلا قي مجموعة من الحكايات الصغيرة التي تتخذ عالم الصعيد ارضية خصبة للحديث باستفاضة.وقد كان اختيار الروائي «محمد البساطي» ثم السيناريست علاء عزام، وبعدهما القليوبي لمجتمع...اقرأ المزيد الصعيد تعبيرا ذكيا للحديث عن هذا العالم المعزول بأفكاره وتقاليده عن الحضارة، فالذين يعيشون في الماضي فقط لابد وأن ينهزموا في الحاضر وتلك هي مشكلة العقلية العربية، فهل عبدالناصر أفضل أم السادات؟ وهل أنت يساري أم يميني أم متأسلم؟ وهكذا ابتعدنا تدريجيا عن الصراع الحقيقي. عبر قصة ثأر تبدو عادية يقدم الفيلم فلسفة هذا العالم القابع في قرية صغيرة تبدو معزولة عن بقية العالم، فبطلنا «آدم» ينتظر طوال الحوادث لحظة الثأر من ابن العائلة التي قتلت ابنه ليلة زفافه، تلك اللحظة التي توقف عندها الزمن ولم تعد في اهتمام احد غيره، ويتابع مسيرة هذا الطفل منذ مولده وحتى يوم زفافه. زمن آخر وسنوات طويلة تمر كالدهر وتدفعه إلى إنقاذ هذا الشاب من الموت انتظارا لكي يأخذ ثأره بنفسه في تناقض لا يفسره سوى تلك العلاقة العجيبة التي نشأت خلال هذه الفترة بين من يريد الثأر والشاب المطلوب، ربما وقع في هواه واعتبره الابن البديل. إنه الصراع النفسي المركب واللحظة الدرامية المدهشة بكل تفاصيلها الشائكة. فعندما يمسك «آدم» ببندقية ويصوبها تجاه الشاب ترتعش اصابعه وتضطرب خلجاته وتجتاحه المشاهد في فلاش باك محكم قبل ان تقفز الدموع من عينيه. لقد تحولت لحظة الفعل والثأر إلى عجز إنساني مذهل. وتبقى النهاية مفتوحة على رغم صوت طلقات الرصاص الذي لا نشاهده. إنها لحظة بعث جديد في اكتشاف الصراع الانساني عبر دراما صعيد مصر، ومن هنا يستمد الفيلم واحدا من اسباب تفرده، فالسيناريو الذي يرصد ثأر عائلة «أبو جلاله» من عائلة «خاطر» يكشف على الجانب الآخر لحظات انتظار الموت غير المحدد لدى العائلة الاخرى، وفي الوقت نفسه ذلك الانتظار المعذب للعائلة الاولى. مشاهد لا تخطئها العين وهي تشيد بإحكام للتداعيات النفسية للجميع «آدم» نفسه وهو يسعى إلى استنفاد طاقته المحمومة في «العزق» بالفأس ونظرات زوجته المعاتبة المستحثة على الإسراع بالثأر لابنها القتيل. وعلى الجانب الآخر «عباس» المذعور الخائف من الموت والذي يهرب منه إلى احضان غازيّة تخشى هي الاخرى من المجهول، وعلى رغم ذلك فهو يعتبر نفسه أعقل شخص في العائلة لانه لم يتزوج وبالتالي فلن يخشى على ولده... الثأر... ثم «عباس أبوخاطر» الذي ظل يعلن ان ابنه الفتى هو مجرد فتاه خوفا من الانتقام حتى تنكشف الحقيقة فيضطر إلى الاعتراف والتسليم بشجاعة بقضاء الله، ثم شداد الذي اصيب بالعجز في حرب 1967. وعلى رغم ذلك يمارس العم قهرة بتزويجه من زوجة ابنه الذي قتل بحسب تقاليد القرية وتكون النتيجة انتحار «شداد» في النهاية في حين تندفع زوجته «ناهية» لأحضان ذلك المجهول الذي يغتصبها رغما عنها في البداية قبل ان تستسلم لتكرار ذلك فيما بعد قبل ان تلقى حتفها هي الاخرى. وبالتوازي وعبر البناء الهندسي المحكم لمحمد القليوبي نلمح الوجه الآخر للعجر والخوف، فالحوادث تبدأ مع حرب 1948 وتنتهي بعد 1967. وعندما تقوم هذه الحرب الاولى يظهر لنا من يكتب على الحائط الباهت «تبرعوا للجهاد في فلسطين»، ويتكرر المشهد عند العدوان الثلاثي فيطلب التبرع لإزالة آثار العدوان. وكذلك الحال في 67 إذ تكتب هذه المرة جملة شديدة السخرية والبلاغة تعبيرا عن الانكسارات المتتالية إذ نقرأ: «تبرعوا لفقراء الهند». والعبارة تلخص على نحو لاذع مستوى آخر من مستويات العجز المهيمن على أقدار أبطاله وهو يستعين بلقطات تسجيلية ثم تضفيرها بمهارة ليربط الحوادث. تأمل مثلا صوت عبدالناصر وهو يعلن خطاب التنحي من راديو عتيق معلق على الحائط وبجواره الكثير من النارجيلات الخشبية المرصوصة بشكل معين ليكشف عن مدى الغيبوبة التي كشفت نكسة 1976 عنها. وكذلك مهد حسين العائد من حرب القنال وقد فقد ذراعه وقدمه وصار مثل شداد عندما يتعانقان وسقط عكاز كل منهما. وهاهو ذا مشهد يتكرر. حسن ذاهب إلى الضفة الاخرى بالقطار نفسه وطقوس الوداع نفسها وكأن الكون لا يتغير. إن الشخصين الوحيدين اللذين اكتسبا حصانة ضد الخوف والعجز في هذا البلد هما الأب «حسن حسني» الذي لم يعد يخشى موت ابنه ويقول: «الموت علينا حق»، وهذا الابن نفسه «صبري» الذي لا ينزل إلى السباحة ليهزم خوفه من الغرق في المرة الاولى. لقد كان محمد القليوبي مخرجا مهموما بالبحث عن اللحظات الفريدة في حياتنا الانسانية والتاريخية موفق إلى حد كبير وهو يختار من مجموعة المبدع محمد البساطي هذه الحكايات التي تبدو عند البساطي نفسه شكلا من اشكال الحديث المختلف عن مفهوم «الشرف» والذي تم تقديمه في فيلم سابق بالعنوان نفسه. إنه يعيد صوغ هذه الكلمات التي باتت من كثرة الحديث عنها بلا معنى حقيقي. ومفهوم الشرف هنا موجود في تنويعات كثيرة في «خريف آدم»، في حكاية الغازية المغتربة في وطن يعاني من الشيزوفرينا ويكيل للشرف بمكيالين وفي حكاية «نجية» التي اجبرت على الزواج من شخص عاجز من دون ان يحق لها الاعتراض وعندما استسلمت قتلوها. ولكن «خريف آدم» بوصفه عملا متكامل يتجاوز مفهوم الشرف الخاص إلى مفهوم اكثر عمومية ليصبح الحديث الاهم والاخطر عن شرف الوطن والمواطن في مجتمع يرتدي ألف قناع ويعاني الخوف ويبحث في جرائم الثأر من منظور ضيق جدا. وقد أجاد القليوبي مخرجا التعبير عن هذه المحنة بمنتهى الخصوصية والشاعرية. فالفيلم يتجاوز الصعيد التقليدي ليقدم قراءة سياسية واجتماعية مدهشة في تاريخ مصر في حين تبدو الاضاءة التي صنعها مدير التصوير رمسيس مرزوق شديدة التعبير عن الحال النفسية العامة لطقس الفيلم بكآبته وحزنه مستلهما الفترة التاريخية بتفاصيلها «إضاءة لمبة الجاز» والموالد الصغيرة، وهي التفاصيل التي نحتها بعناية وروعة «صلاح مرعي» لتكون الخلفية والديكور لهذا العالم المنحوت بدوره بالملابس واللهجة والتقاليد والحركة والبيوت. ومن المؤكد ان موسيقى «راجع داوود» كانت من ملامح هذا العمل الأخاذ والذي كان يحتاج ليعبر عن ازمة أبطاله وحالاتهم المركبة ومشاعرهم المتأججة إلى الحان لا تقل شجنا وعذوبة وألما وهو ما فعله مستخدما هذا المزج الفريد بين الربابة الشعبية والاوركسترا الاوروبية. ومونتاج عادل منير مكثف وواع بأهمية تتابع التفاصيل الصغيرة لتُحدث أثرها العام. ويبقى ذلك الاداء العبقري الذي قام به «هشام عبدالحميد» ليعبر عن شخصية «آدم» «المركبة بمنتهى البساطة والروعة فكلماته قليلة ولكن تعبيرات وجهه لخصت كل المأساة بلا مبالغة أو احتفال.