أراء حرة: فيلم - Blue Jasmine - 2013


النقطة الفاصلة بين التشاؤم والتفاؤل

"لم تعد القصص عبارة عن بداية ووسط ونهاية بعد، بل مجرد بداية لا نهاية لها" قالها ستيفن سبيلبيرج سابقا، وحققها وودي آلان بفيلمه (Blue Jasmine) عندما بدأ الفيلم عارضا قصة حياة البطلة جاسمين وترك النهاية مفتوحة للمشاهد يتخيلها كيفما شاء. فمن إخراج وتأليف العبقري ذو الدلالات النفسية البحتة (وودي آلان) ومن بطولة (كيت بلاشينت) يقدم رائعته النفسية التي ياخذك بها بعيدا بين الخطوط الفاصلة للتشاؤم والتفاؤل ويتركك تعيش مع البطلة وتخيلاتها ومرضها النفسي من خلال دراما اجتماعية تدور حول الحياة البائسة لسيدة...اقرأ المزيد المجتمع الراقي جاسمين التي حطمت نفسيا بعد أن أٌلقي القبض على زوجها (إليك بالدوين) بتهمة الفساد المالي وانتحاره، فلا تجد من سبيل غير التوجه إلى شقيقتها بالتبني جنيجر (سالي هوكينز) واﻹقامة معها بعد أن ضاقت بها كل السبل، إلا أن ماضيها ونرجسيتها تلاحقها أينما ذهبت لتزيد من تدميرها وتعوق من وقوفها مرة أخرى على قدميها. أسلوب تأثيري قوي لعرض مزيج من المشاعر والعلاقات العاطفية القوية، بدأت بعلاقة الزوجة جاسمين بزوجها اللعوب الذي أقام أكثر من علاقة مع كل النساء اللاتي تعرف عليهن، ولم تسلم من ذلك أقرب صديقات جاسمين، وبالرغم من كل هذا رفضت جاسمين التخلي عن حياة الثراء والرفاهية التي تعيش فيها مع زوج كاذب مخادع لمجرد أنه يحقق لها كل ما تحلم به. ثم ينتقل وودي ببطلته إلى عالمين مختلفين حيث حياة كيت البائسة الفقيرة وإقامتها مع شقيقتها جينجر، وحياة كيت الماضية وكيف سيطرت ذكرياتها عليها فسعت لتكراريها مرة أخرى بالارتباط بشخص ثري بغض النظر عن من هو؟!! وتجلت الحرافية في عرض بعض المشاهد الأكثر مليودراما بدأت بتحدث جاسمين عن أغنية (القمر الأزرق) التي ظلت ترددها وتذكرها طوال أحداث الفيلم دلالة على البؤس والحزن الذي تعيش فيه، فالمعروف أن كلمة أزرق (Blue) تستخدم كثيرا في الأغاني والتعبيرات التي تدعو إلى كثرة الحزن. ثم كيف كانت جاسمين نفسها السبب الرئيسي وراء تدمير حياتها حيث قامت في لحظة انتقام أنثى من زوجها بالإبلاغ الشرطة الفيدرالية عنه لمجرد أنها اكتشفت خيانته لها. ظهرت براعة وقدرة كيت بلاشينت على أداء شخصية معقدة نفسيا من خلال طريقة تحدثها مع نفسها، وتناولها لماضيها الذي ولىَ، من خلال طريقة ذكرها لماركات الشنط والملابس التي كانت ترتديها وكيف أدى كل ذلك في النهاية إلى شخصية وحيدة. مشوشة لتستحق عن جدارة بلانشيت جائزة أحسن ممثلة والتي رشحت لها هذا العام 2013 بالجولدن جلوب. ولم يكن فيلم (Blue Jasmine) الفيلم الأول ﻵن الذي يتناول من خلاله عرض ومناقشة بعض الأبعاد النفسية بل كان فيلم (Annie Hall) عام 1977 والذي قام فيه بأداء دور البطولة لشخصية إليفي بجانب الممثلة (Diane Keaton) وفيلمه (September ) عام 1987 مستندا على العديد من الأبعاد النفسية والإنسانية المختلفة. مقدما مشاهد سينمائية ذات مغزي معبر، من خلال اختلاف شخصية الاختين جاسمين وجنيجر وتطلع كل منهما لاختيار الرجل الذي سوف ترتبط به. وطريقة تفكيرهما في مستقبلهما. وقد اختار وودي آلان العديد من المقطوعات الكلاسيكية والموسيقى الهادئة والحزينه التي كانت مناسبة لأحداث الفيلم، وساعدت على تصوير الحياة البائسة التي تمر بها بطلة العمل. ومن أكثر الأشياء الجميلة والتي ظهرت بشكل واضح الملابس والأزياء الخاصة بشخصية جاسمين والتي دلت على رقيها وعلى حياتها السابقة. الفيلم يستحق أن يشاهد أكثر من مرة واعتقد أنه سيفوز بجوائز عديدة هذا العام 2013 . ويجب التنويه أن الفيلم يحتوي على بعض المشاهد الجنسية البسيطة.


«جاسمين الحزينة»: آخر لوحات آلان.

«أشعر ان الحياة تنقسم الى نوعين: ما هو مأسوى وما هو بائس، المأسوى مثل الحالات المرضية المميتة والعمى والشلل، اما البائس فهو باقى من ليس كذلك، لذا عليكى ان تكونى شاكرة لأنك من البائسين، فكونك بائسة يعنى انك محظوظة» هكذا كانت ترى شخصية «الفى» الذى كتبها واداها وودى آلان بتحفته السبعيناتية Annie Hall، والتى تعبر عن وجهة نظر آلان نفسه فى احد اكثر افلامه ذاتية، وهى وجهة النظر التى اظنه قد ظل مخلصاً لها على مدى بعيد من تاريخه الفنى على كونها اقرب نقطة تلاقى تجمع بين الواقع والتشاؤم والتفاؤل، ولكنى بعد...اقرأ المزيد مشاهدة فيلمه الاخير وبعد مرور كل تلك السنوات على «انى هول»، لم اعد متأكد ان كان لازال يؤمن بها ام ان شخصية «جاسمين» قد هزت قناعته بها، بصفتها واحدة من اكثر الشخصيات تركيباً للبؤس فى تاريخه الحكائى الطويل، ليبدو ان هنالك استثنائات فى البؤس لا تتطلب الشعور بالشكر والامتنان، بل تصل ببؤسها للنوع المأسوى. وودى آلان عضو تاريخى مخلص للمدرسة العبثية، احياناً تميل عبثيته للوجودية الاكثر تفاؤلاً ومعنى، وذلك ما وضح فى افلام مثل Hannah & Her Sisters و Midnight in Paris، واحيانا تميل عبثيته للعدمية الاكثر تشاؤماً، وهذا ما وضح فى افلام مثل Stardust Memories و Crimes & Misdemeanors، وفى رأيى ان فيلم اليوم ينضم للنوع الاخير. يقول آلان انه استلهم فكرته من تجربة فعلية مرت بها احدى جاراته الثريات بمدينة نيويورك قبل سنوات قليلة واثناء الازمة الاقتصادية العالمية، حيث أفلست تلك الجارة واتجهت للقيام باعمال شاقة ومهينة لطبيعتها البرجوازية لتكسب معيشتها. هذا بجانب انه استلهم -ربما عن طريق اللا وعى- الادوات الرئيسية لقصة مسرحية تينيسى ويليامز الشهيرة «عربة اسمها الرغبة»، واعنى الادوات فقط وليس الفكرة، فالاختلاف الجوهرى بين فكرة المسرحية وفكرة الفيلم سيبدو واضحاً اثناء مشاهدة الفيلم. يبدأ الفيلم بتعريفنا على السطح من شخصية «جاسمين» التى تقوم بدورها الممثلة كيت بلانشيت، وهى سيدة المجتمع النيويوركى الثرية المرفهة، هذا قبل ان تتعرض لكبوة بعد سجن زوجها «هال» فى قضية فساد مالى لتفقد كل ثروتها ومركزها الاجتماعى ويتخلى عنها الجميع، حتى لا يعد امامها سوى الاتجاه لسان فرانسيسكو حيث تعيش أختها بالتبنى «جينجر» التى تقوم بدورها سالى هوكينز، ومن هنا يبدأ الفيلم، او لنقل الفيلمين، فمنذ ذلك المنعطف ينقسم الفيلم الى فيلمين، جزء يدور فى الزمن الفعلى والآخر فى الماضى عن طريق الفلاش باك، ويسيران معاً بشكل متوازى، لنتعرف اكثر على ماضى «جاسمين» الرغد الذى يدور بنيويورك، ثم نربطه ونقارنه بحاضرها البائس الذى يدور بسان فرانسيسكو. منذ بداية الفيلم يضعنا آلان امام تفاصيل صغيرة عن «جاسمين» تجعلنا نتخطى ما تظهره الشخصية لنغوص فى اعماقعها، اشياء مثل حديثها المتواصل عن نفسها وحياتها فى الطائرة فى اول مشاهد الفيلم، والاشارة لنوع حقيبتها الفاخر بصوت محدث فى المطار، وشراء تذكرة من نوع الدرجة الاولى باهظ الثمن نسبة الى سيدة مفلسة، واختيار اسم شهرة ذو وجاهة كـ «جاسمين» عوضاً عن اسم مولدها وهو «جانيت»، وصولاً للبقشيش بالغ السخاء الذى تمنحه لسائق السيارة الاجرة، كل هذه التفاصيل تجعلنا نفهم اننا امام شخصية نرجسية تتمحور اهتماماتها حول ذاتها ونظرة الاخرين لها، وتواجه خللها النفسى الناتج عن صدمتها الاجتماعية عن طريق الانكار، واحيانا عن طريق الحط من شأن الآخرين وعلى رأسهم أختها وحبيب أختها «شيلى» الذى يقوم بدوره بوبى كانافالى. حسنا، هى لا تريد الاعتراف بحقيقة الامر، انها الان مجرد خاسرة تعيش عالة على اختها العاملة باحد الاسواق التجارية وتعول طفلين اخرين من زوجها السابق الذى احتال زوج «جاسمين» على امواله وتسبب فى افساد حياته وحياة «جينجر». من اهم تفاصيل رسم الشخصيات هو جعل «جينجر» و «جاسمين» اختان بالتبنى،اختلاف اصولهم البيولوجية، بالاضافة للاختلاف الجغرافى بين زمنين الفيلم من الشاطىء الشرقى الى الشاطىء الغربى للولايات، كان ذلك نقطة انطلاق لاثراء ما وراء القصة وعقد مقارنات بينهم اشبه بالمقارنات التى فرضها آلان بفيلمه الاسبق Vicky Christina Barcelona، وان كان من السهل الوقوع فى غرام شخصية «جينجر» من المشهد الاول لها رغم انها ليست الشخصية المثالية تماما، اللا انه لا شك ان التعاطف مع «جاسمين» فى طريقه ليحدث ايضا لا محالة، لقد غلب نوع من الواقعية على رسم الشخصيات يجعلك تلتمس لهم الاعذار. قد يشعر البعض بأن اسلوب الفلاش باك المتداخل غير الممهد فى هذا الفيلم ادى الى بعض الالبتاس، وأثق تماماً ان هؤلاء لم يشاهدوا Annie Hall، الذى استخدم فيه آلان نفس الاسلوب، وهو اسلوب يتميز به آلان ويضيف اليه، والاهم انه يصفع اولائك الذين يجلسون فى قاعات السينما وبحوزتهم عبوات "الفشار" الضخمة التى تسليهم اثناء القيام بعملية من المفترض انها مسلية بالاساس! انها صفعة ليتركوا ذلك الهراء ويعطون ما يشاهدون ما يستحقه من تركيز؛ كى لا يحدث ذلك النوع من الالتباس المزعوم. العظماء كثيرون، ولكن العباقرة يعدون على اصابع اليدين، وآلان الذى هو على مشارف عامه الـ 80 هو واحد من اولائك العباقرة، وبالحديث عن افلام العباقرة لا يمكننا القول بأن ذلك الفيلم سىء والاخر جيد، بل هى تجربة اخراجية تقيّم بعموم رؤيتها وتنوّع اداواتها، واعلم انه ليس من الدقيق محاسبتهم بالقطعة، هذا لا يمنع انه يمكننا تفضيل احد افلامهم على الآخر، لذا فاعتقد ان هذا الفيلم قد حجز لنفسه مكان فى قائمة افضل 10 افلام قدمها آلان فى تاريخه، رغم أنه اقل افلام آلان ذاتية من حيث الفكر، اللا انه استطاع الحفاظ على اسلوبه السينمائى المميز وروحه الساخرة وشخصياته المفعمة بالحياة، وبالطبع حافظ على التواصل الروحى التاريخى مع جمهوره عبر عشقه لموسيقى الجاز التى اعتادت ان تملأ افلامه بالرائحة النيويوركية الكلاسيكية المثيرة، خاصة وان عنوان الفيلم مستوحى من احدى اغانى الجاز الشهيرة. حسناً، ساوجز واقول ان وودى آلان مازال ذلك البروكلينى النحيل الذى ترك فيلمه يغتصب الاوسكارات من اسطورة «حرب النجوم» فى شتاء 1978، وذهب لاحدى حانات مانهاتن ليعزف موسيقته المعشوقة، غير عابه بما يحدثه فيلمه على الشاطىء الغربى من القارة. كنت قد ذكرت فى مراجعة سابقة عن فيلم «حياة اديل» اننى انتظر مشاهدة Blue Jasmine، لأحكم ان كانت الفرنسية «اديل اكساركوبولس» هى افضل ممثلة فى العام الماضى ام ان «كيت بلانشيت» قادرة على تعديل ذلك الرأى المبدئى، والآن بعد ان شاهدته، اندب حظك العاثر يا صغيرتى «اديل»!، ادائك فى رأيى يظل من اهم ظواهر العام الماضى، ولكن اعذرينى فاداء السيدة «بلانسيت» تخطى اى مقارنة يمكن عقدها، انه ليس ذلك الاداء المبهر الذى يسرق منالمتفرج شهقة اعجاب لبراعته وحسب، بل هو الاداء الذى يجعل المتفرج يخشى ان يصاب الممثل الذى امامه بمكروه او ان يفقد وعيه من شدة انفعالاته وقوة تقمصه التى يصعب وصفها اوها بأى مقياس قوة متعارف عليه، جائزة الاوسكار ستذهب لـ «كيت بلانشيت»، هذه الآن حقيقة وليست تنبؤ،