ضمن فاعليات الدورة السادسة لـ«بانوراما الفيلم الأوروبي»، عرض فيلم Oh Boy، العمل الأول في مسيرة مخرجه «جان أولي جيرستير»، والذي يعتبر أهم ما قدمت السينما الألمانية هذا العام. منذ الوَهلة الأولى بدا أن هناك تشابهاً واضحاً بين هذا الفيلم وبين فيلم المخرج «جواكيم تريه» الذي عرض في العام الماضي Oslo 31 August، كلاهما يدور في يومٍ واحد، عن بطلٍ مُحبط يحاول إيجاد ذاته، في كلاهما تَبدو المَدينة ظاهرة ومسيطرة وواضحة، برلين هُنا وأوسلو هُناك، ولكن في عُمق كل ذلك تكون الحكاية عن «البشر الذي يعيشون...اقرأ المزيد بداخلها». بعد ذلك، وبعيداً عن التَّشابهات الظاهرة، يَبدو فيلم «أوسلو 31 أغسطس» أكثر توحُّداً مع بطله، هو فيلم عن اليوم الأخير في حياةِ «أندرش لاي»، ولذلك فهو النُّقطة التي يبدأ عندها اهتمامنا وينتهي، شيء عَميق للغاية عن الحياة والموت، السَّبيل الذي يقودنا نحو أيُّ منهم، الأمر هُنا، في «برلين» وفي فيلم "جيرستير" الأول، مُختلف، البَطَل «نيكو فيشر» ليس هو الشيء الذي نتعلَّق به بشكل حقيقي، له سِمات واضحة يضعها الفيلم منذ البداية: مُراهِق شاب، لا يدرس ولا يَعمل، رفيقته تَهجره، والده يوقف مَصروفه الشهري، طبيبه يخبره أنه غير مُتزن، شرطة المرور تسحب منه رخصة القيادة، والبوليس يجري وراءه في المترو، فجأة تنقلب حياته العادية في يومٍ واحد، ويُصبح غير مُسيطر على أي شيء، ونتركه دون أن نعرف فعلاً ما سيفعله. ولكن، رغم ذلك، فالمُهم في الحكاية فعلاً ليس «نيكو»، ليس مَصير الفتى نَفسه، بقدرِ ما يبدو وَسيلة للتعرُّف على «برلين» المُعاصرة، مُقتطعات متتالية من حياةِ المَدينة، وحكايات «البشر الذين يعيشونها»، بصورة أبيض وأسود أنيقة للغاية، ومُوسيقى بَدا فيها احتفاءً واضحاً بـ«برلين» وناسها. «نيكو» يُقابل الجار العَجوز الذي يَحكِي له عن زوجته التي أصيبت بسرطانِ الثدي وتم استئصالهم لها ويَعيش هو في تعاسة منذ ذلك الحين بسبب الفتور الجِنسي بينهم، يُقابل صَديقه الذي يذهب به إلى تصوير أحد الأفلام التي تدور عن الحرب العالمية الثانية بميلودرامية عَنيفة –في سخرية مُبَطَّنَة من الموضوع الأكثر جذباً للسينما الألمانية-، يُقابل زميلة دراسة قَديمة تدعى «جويكا» قللت من وزنها قرابة الـ100 كيلو ولكنها لازالت تعيش في تعاسة الذكريات القديمة التي تَحملها حين كانت «سمينة» حتى مع عرضها المَسرحي التجريبي الذي تُشارك به كراقصة، وأخيراً فإن «نيكو» يُلاقي ذلك العَجوز الذي لا يعرف اسمه، العائد لتوّه إلى برلين بعد 60 عاماً من الغياب، يَحكي حكايته.. يَسير بضع خطوات ثم يَسْقُط، يَنامُ، فتنامَ المَدينة، تستيقظ ويظل في رَقدته.. يموت. لا يوجد هنا حِكاية مُكْتملة، لا يوجد مَصير مُحدد، الأمر أشبة بقطع صغيرة وناقصة تُشكّل صورة أو لَوحة للمَدينة، لبرلين الآن، من هنا تحديداً كان تقدير الفيلم، ربما هذا هو أكثر فيلم مُعبر عن ألمانيا الحالية منذ سنوات طويلة، دائماً ما تجنح السينما الألمانية، أو ما يصلنا منها، لحكايات الماضي، الحرب العالمية، أو إسقاط جدار برلين وتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية، هذا الفيلم مُختلف، هو عن الحاضر بكل عاديته وتناثره وأسئلته وقلة ملحميته، لذلك فهو أفضل فيلم يَصدر عن ألمانيا منذ وقت ليس بقليل.
الفيلم يحكي يوم وليلة في حياة شاب من برلين في العشرينات من عمره يدعي نيكو فيشر، يمر بمرحلة متقلبة في حياته. فقد قرر وقف دراسته الجامعية دون أن يطلع والداه، ومع بداية الفيلم يفترق عن حبيبته وينتقل للعيش بمنزل آخر. "فيشر" عاطل ولا يحاول البحث عن وظيفة، لكنه بالرغم من ذلك يقضي يوماً مزدحماً بأحداث ليست بالأهمية الكافية لتغيير مسار حياة، ولكنها تمثل علامات مسجلة لفترة منتصف العشرينات من عمر شاب متوسط المعرفة، يستهلكه التفكير في حياته أكثر من العمل علي تحريكها. حجة فيشر الأساسية لتبرير خموله وعدم...اقرأ المزيد معرفة هدفه من الحياة تكون دائماً التفكير، فهو كان "يفكر" طيلة عامين ماضيين بدون أي إنجازات ولو صغيرة تذكر. هكذا يقول لأبيه في زيارة عابرة يتبادلان فيها اللوم كالعادة و سريعاً ما ينهون لقاءهم المتوتر. إذا لم تلتمس أعذاراً لفيشر في أن يكون إيقاع حياته بهذا الركود، فسوف تجذبك إليه تفاصيل حياته العادية، والتي بسبب عالميتها يصلك تأثيرها في الحال. يتعطل كارت البنك الشخصي داخل الصراف الآلي وفيشر في أمس الحاجة للوقت. يسهي فيشر بعد أن ييأس في محاولته الحصول علي المال، ويعطي شحاذة كل ما يملك من نقود، ولكنه حين يتنبه لما فعل يشرع في استعادة نقوده من الشحاذة فتشاهده إمرأة تعبرالشارع وتحرجه بنظراتها. يحاول فيشر أن يحصل علي كوب عادي جداً من القهوة، ولكنه لا يستطيع بسبب الخيارات العديدة التي تعرضها عليه البائعة، وحين يدفع ثمن قهوته يفاجأ فيشر بثمنها الباهظ فتجاوبه البائعة بأنه هو الذي اختار هذا النوع. يان جيرستر يضخم في فيلمه المواقف الصغيرة التعيسة التي حين يتكرر حدوثها تتساءل، لماذا تصيبك انت هذه المواقف بالتحديد ؟ منذ خمسون عاماً ، قدم المخرج الفرنسي "لوي مال" تحفته "Le Feu Follet" أو "النار الكامنة،" (المقتبس عن رواية بيير دريو لاروشيل بنفس الإسم) والذي كان يحكي قصة يوم وليلة في حياة ألين ليروي: رجل في أوائل الثلاثينات في فترة النقاهة بعد أن تخلص من إدمانه للخمر، والذي يقرر أمامنا منذ بداية الفيلم أنه سوف ينتحر غداً. يحاول ألين طيلة الفيلم أن يجد معني آخر لحياته قبل تنفيذه لقراره الحاسم بوضع حد لحياته التي أصبحت متاهة مليئة بالأحلام الضائعة والمتاهات الفكرية والوجدانية التي لا يتشكل عقل رجل مثل ألين دون أن يمر بها. وفي عام 2011، بعد نصف قرن تقريباً من فيلم لوي مال، ظهر الفيلم النرويجي "Oslo, 31st of August"، والذي يعد النسخة الحديثة من النار الكامنة والمقتبس عن نفس الرواية بعد إضافة بعض التغييرات التي وإن كانت لها طابعها الخاص، لا تقلل من التشابه الكبير بين الفيلمين. "أندرس" شاب في نفس مرحلة "ألين" العمرية، يتعافي من إدمان الهيروين، وينطلق في شوارع أوسلو دون هدف معين، غير أنه يلقي نظرة واسعة علي نفسه وما آلت حياته إليه في سن الرابعة والثلاثين، من خلال مقابلة الأصدقاء القدامي والأقارب. وفي فيلم "Oh Boy"، الذي يضيف علي روح الفيلمين السابقين له جرعة كبيرة من الكوميديا السوداء، وخفة أكثر لشخصية البطل التي تصغر "ألين" و"أندرس" بأكثر من عشرة أعوام، نري وقع نفس الأزمة الوجودية علي بطل الفيلم ولكن بلمحة طفولية بعض الشيء هذه المرة. ف"فيشر" يتسمتع بالاسترخاء علي مقعد جدته الهزاز التي تعرض عليه أن يجربه، ويستغرق في النوم عليه بعد لحظات. ويهتم فيشر بسماع قصص عن طفولته، محاولاً كالكثيرين في سنه أن يبحث عن هويته الحقيقة قبل أن تنحتها وحشة المدينة وأحلامها الزائفة. حين يُسأل ألين ليروي عن حالته في Le Feu Follet، يرد بأنه "يشعر بالخواء، الذي يتخلله يعض اللحظات الأوقات البشعة". يبنما يتحدث أنجرس عن حياته في أوسلو قائلاً "أنظر إلي... أنا الآن في الرابعة والثلاثين, ولا أملك شيئاً. ولا أريد أن أبدأ من جديد." أما فيشر، فيدرك أن البشر من حوله طبيعيين، ولا يعيبهم أي شيء، بالرغم من شعوره أحياناً بأن جميعهم مخطؤون في التعامل مع حياتهم. ولكنه حين يفكر ثانيةً، يدرك أن أصل المشكلة داخله هو... لا يستطيع أن يلوم أحداً عير نفسه. ألين وأندرس مهزومان وانهزاميان، يشعران بأنهما وضعا أيديهما علي الجزء الأكبر من حقيقة أنفسهم، تعبا من مراقبة إخفاقاتهما لدرجة يدركان فيها أنه من العبث أن يحاولان مرة أخري. أما فيشر، فالفرق الوحيد بينه وبينهما هو أنه مازال أمامه نصيب أكبر من الوقت، وهو يمر بفترة أقرب إلي التخبط والحيرة منها إلي اليأس. المدينة (بالأخص العاصمة) هي البطل الحقيقي في الثلاث أعمال المذكورة هنا. فكما كان كلاً من هذه الأفلام يقدم رؤية سوداوية لبداية مرحلة الاستقلال النفسي والمادي عن بيت الأسرة، فقد قدم كلاً من لوي مال ويواكيم تريير ويان جيرستر كولاج بصري جميل ومقبض في نفس الوقت للمدينة الكبيرة المزدحمة التي تبتلع سكانها أثناء سعيهم للوصول إلي تطلعاتهم. امتلأت تلك الأفلام بتتابعات نتأمل فيها المدينة فقط ونحن نستمع إلي موسيقي الجاز. لكن ما يجعل فيلم "Oh Boy" يختلف عن العملين الذان سبقاه هو أنه أكثرهم تواضعاً من الناحية الفكرية, وإن كان هذا لا يعيبه علي الإطلاق. فشخصيات الفيلم لا تحاول أن تفلسف المواقف بشكل مقعر، وإنما تحاول ببراءة إيجاد معني منطقي للحياة وهدف حقيقي يستحق العيش في قتامة المدينة لأجله.