تذهب الكاتبة والمخرجة الجورجية "نانا إيفتيمشفيلى" فى رحلة تنقيب لأهم لمحات ذكريات طفولتها لتنقلها الى الشاشة فى هيئة قصة تشبه فى منطقها القصصى منطق نميمة الصبية، والتى دائماً ما ترتكز على حدث يمكن تناقله فى ابسط صورة .. فمثلاً تلك الفتاة تواعد ذلك الشاب .. أو هذا الرجل يتخاطب مع العفاريت .. أو هذا المنزل يحوى العاهرات .. أو هذا الرجل يتاجر فى المخدرات سراً ...الخ، ذلك المنطق الذى لا يهتم بممهدات ما يحدث ولا توابعه قدر اهتمامه بما يحدث فقط .. هناك دائماً فعل، وهناك شخصيات موصومة بكل فعل، وإن كان...اقرأ المزيد الفعل وحده غير كافٍ لتأسيس دراما، فإن التشابك الممنهج للأفعال مع الشخصيات التى تقوم بها كافى .. والأجمل فى هذا الفيلم انه يجعلك كمتلقى تتابع تلك الأحداث بنفس المنطق، وكأنك أحد المراهقين الذين يتزاملون مع بطلتى الفيلم صفهن الدراسى، او يسكنون شارعهن الكئيب .. فيستمعون للحواديت المتناقلة هنا وهناك، عن تلك الفتاة التى يتم اختطافها فى وضح النهار ومن وسط لفيف من الناس دون ان يتدخل احدهم لانقاذها، او الرجل السكير الذى يضرب زوجته لأتفه الاسباب، او الرجل الذى قتل رجلاً آخراً ويقضى عقوبته فى السجن، او الفتاة التى تتزوج بالاجبار، او السوق الذى يستحله جنود الجيش، او الفتاة التى طردت من بيت زوجها لأنه اكتشف انها لم تكن عذراء حين تزوجته، او الشاب الذى قتل حبيب زوجته السابق بدم بارد فى فوضى النهار ...الخ. تدور الأحداث عام 1992 بعد تفكك الإتحاد السوفيتى وإستقلال جورجيا من ناحية، وحيث الحرب الأهلية وعدم الإستقرار السياسى وحظر التجول من ناحية أخرى. لم يخبرنا مخرج الفيلم بالسياق الزمنى بشكل مباشر ولكن عبر بيانات الإذاعة المنبعثة على استحياء من راديوهات المدينة على مدار زمن الفيلم، وعبر قليل من الجمل الحوارية على ألسن الشخصيات. وانعكست حالة الفوضى وعدم الاستقرار التى تمر بها الدولة على الشخصيات أنفسهم، لدرجة ربما تجعل من الأحداث مجرد تجسيد رمزى للوضع السياسى، فتشعر وكأن مرحلة مراهقة ونشأة البطلتين أقرب لنشأة وطفولة الدولة الجورجية فى مهدها، سواء بجنوح واندفاع "ناتيا" ضد زوجها "كوت"، او بعقلانية وإتزان "إيكا" التى تكره الحلول العنيفة،كما تشعر بأن تقارب "لادو" من روسيا، التى كان يذهب اليها لزيارة عمه، له علاقة بنهايته، ومن ثم بنهاية علاقة روسيا بجورجيا، وبالمثل كان "كوت" يرمز بقبحه للوجه المعادى لروسيا برسمه تلك النهاية لـ"لادو"، كما أن حنين "إيكا" لأبيها الذى يمثل عصر ما قبل التفكيك يرمز لحنين لهذا العصر .. نخرج من كل ذلك بأن هناك حالة عامة من الحنين الجورجى للإتحاد السوفييتى ولكن قوة الفيلم لا تكمن فى جانبه السياسى الرمزى بل فيما يدور على السطح من القصة، انها لوحة صادقة ومميزة عن المراهقة، صحيح انها تتناول مشكلات المراهقة التقليدية، لكنها تتناولها من خلال شخصيات مرسومة بشكل أكثر تعقيداً مما اعتادت علي تقديمه أفلام المراهقين، أضاف لذلك المناخ القاسى الذى تدور به الأحداث، ذلك المناخ الذى تتميز به الأفلام القادمة من شرق أوروبا بصفة عامة، على صعيد الصورة أو الصوت، فيكفى أن مصوّر الفيلم هو نفسه مصوّر الفيلم الرومانى الشهير "4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان"، أما على صعيد الصوت فتغيب الموسيقى بشكل شبه تام، يقطع هذا الغياب الموسيقى المنبعثة من واقع الفيلم نفسه، مثل تلك الأغنية الوجودية التى تغنت بها البطلات فى درس الموسيقى على ايقاع البيانو، ومعها الموسيقى الفولكلورية التى رقصت عليها "ايكا" فى حفل زفاف "ناتيا" فى مشهد بديع يعج بمعانى التحدى والتقزز والتمرد على ذلك واقع القبيح الذى يتهادى فيه الأحبة بآلات القتل. ولم يكسر قسوة مناخ الأحداث سوى تلك العلاقة العذبة التى جمعت بين الصديقتين، رغم الاختلافات بينهن فى الشكل والطباع والتطلعات. تبدأ الأحداث فى التعقيد عندما يقوم "لادو" بإهداء مسدس إلى حبيبته "ناتيا" كى تدافع به عن نفسها، ذلك المسدس الذى يتم تناقله فى الفيلم عدة مرات بين عدة شخصيات وعدة أماكن، فى تعبير عن حيرة الشخصيات بين إختيارات قد تشكل مصير حياتهم، حتى ينحاز الفيلم فى نهايته الى معنى الحياة والتعايش بدلاً من الإنتقام والتناحر، وأن الظلم فى كثير من الأحيان يكون أفضل من الفوضى. غلب على الصورة اللونين الأزرق والأسود بما يمثلانه من معانى الدفء والكئابة، كما زادت جرعة اللقطات المقربة من الشخصيات خاصة فى المشاهد الداخلية، ما أعطى ايحاء بالضيق والحصار الذى تعيشه المدينة وشخصيات الفيلم، شاب الإيقاع بعض الفتور نتيجة لتسامح المونتاج مع طول بعض اللقطات غير المبرر، بينما وازن السيناريو بين التعبير بالصورة والتعبير بالحوار، وإتسم السرد بالتحفظ، فحتى آخر لقطة بالفيلم مازلنا نتلقى معلومات عن ماضى الشخصيات لم نكن نعرفها، ولكن رغم ذلك التحفظ لم يقع الفيلم فى فخ الملل من غياب الأحداث، بل من خلل مقادير المونتاج فى عرض تلك الأحداث. أعطت "ليكا بابلوانى" و "مريم بوكيريا" أداء تمثيلى اتسم بالتلقائية والعفوية، ووضعونا أمام مراهقتين حقيقيتين. "فى الإزدهار" بذلك العنوان الساخر، يُعد تجربة سينمائية طازجة تستحق المتابعة وتسليط الضوء، وتبشر بصعود مخرجة واعدة لها رؤية مميزة للحياة. تم عرض الفيلم فى القاهرة على جدول "أسبوع الأفلام الفنية" الذى تقيمه مبادرة زاوية