شفته للمرة التانية إمبارح بليل.. الحقيقة ده مش فيلم يتشاف مرة تانية عشان تُلم بكل جوانبه مثلاً بالعكس، هوا عبارة عن (حالة) بتعيشها بقصة سهل التواصل معاها فـ مُشاهدة واحدة.. ومن الأفلام اللي ممكن تحب تشوفها كتير لأن إستقبالك ليه هيبقى مختلف فـ كل مرة حسب الفترة اللي بتمر بيها من حياتك.. أنا شفته تاني لأني حبيته أوي أول مرة، ولقيت ان مزاجي يتطلب فيلم من نوعه، فـ ملقتش أفضل منه الصراحة. المرادي الفيلم اخترقني تماماً وحبيته أكتر من المرة الأولى (اللي كانت من سنة فاتت).. القصة بتحكي عن شاب بيروح...اقرأ المزيد لعمه فـ (استطنبول) وبيعض معاه فـ بيته مدة من الزمن بيبحث فيها عن شغل يجيبله دخل مادي، لأنه انتقل في الأصل بسبب ان الشركة اللي كان شغال فيها فـ بلدة تانية (بعيدة) -ومن هنا ييجي اسم الفيلم، فـ الشخصية دي قادمة من مكان بعيد- قامت بإنها تتخلص من عُمال كتير عندهم، منها الشاب ده وأبوه .. يعني قضية الفيلم هيا قضية عالمية جداً محسوسة فـ واقع حياتنا اليومي تقريباً : التعب والإرهاق فـ سبيل لقمة العيش. لكن مش ده الشئ الوحيد اللي مخلي الفيلم قوي، هوا فعلاً فـ الجزئية دي فيلم عظيم عن معاناة الفرد اللي مش لاقي شغل، واللي بيعافر عشان يلاقي شغلانة تكسبه فلوس وبيحاول مرة بعد التانية، واللي بيصيبه أشكال من الإحباط فـ طريقه.. السيناريو فيه حاجتين قويتين جداً: أولاً هوا عامل توازي رائع بين معاناة كلاً من (الشاب القادم) و(العم صاحب البيت) فـ شكل علاقة متقاربة لتأكيد فلسفة الفيلم القائلة ان (كلنا عندنا مشاكل/كلنا عايشين عشان نعاني~).. ثانياً تركيز ممتاز من المشهد الإفتتاحي للفيلم على شخصية الشاب لأن ده حلاوة الفيلم كلها، وحياته ليها نوع خاص من المعاناة مش بس معاناة مادية، لكن معاناته الأساسية تكمن فـ التواصل مع الجنس الآخر.. وحيداً وحيداً يغرد خارج السرب. ~ (الهدوء وفترات الصمت) لما الواحد يرجع بذاكرته شويتين ويفتكر (أفلام عظيمة فيها صمت كتير) يمكن أول حاجة تيجي على باله نوعية القصة اللي استُخدِم فيها الصمت ده.. فيلمنا ده مليان فترات صمت بشكل عظيم: نوع الصمت اللي يخليك تفكر فـ الأحداث السابقة كأنك عملت (pause) وسرحت بخيالك شويتين قبل ما ترجع تكمل الفيلم.. الصمت اللي بيتشال على حساب الصورة السينمائية وجمالياتها ونوع القصة لو هيا مثلاً بتتكلم عن مشاعر عميقة فـ الذات صعب تتنقل بالكلمات، والأهم؛ صعب يتواصل معاها الجمهور فـ حالة جت بشكل مُباشر بالحوار.. فيه حالة من (التيه) لقيت نفسي فيها أثناء مُشاهدة الفيلم.. مش فاكر امتى آخر مرة شفت فيلم ولقيت نفسي بقول عليه (حالة تتعاش) مش (قصة تتعرف).. هرجع تاني وأقول ده فيلم الواحد (يحب) يشوفه كتير. الصمت هنا صمت حزين، خافت، صمت الشتاء فـ تركيا 2002.. صمت نابع من هدوء شخصية الشاب نفسها.. البعض بيحب يصنف الأفلام انها (أفلام قصص) و(أفلام شخصيات) وده السؤال اللي كنت بلاقيه لما كنت بسأل سؤال: ايه هيا الحبكة ؟ .. الفيلم ده يُعتبر فيلم (شخصية) جداً بالنسبالي مش عشان عامل فوكَس على شخصية واحدة كل وقته (زي حالة ترافيس بيكيل فـ "تاكسي درايفر" مثلاً) لكنه عشان قدر انه ينقلي أصغر المشاعر اللي موجودة فـ الشخصية، اني أشوف فيلم يخليني (أعطف) و(أهتم) و(أخاف) على مصير الشخصية هوا بالنسبالي نجاح ساحق للهدف اللي واضعه مخرج الفيلم، حتى لو اختلفنا فـ مساحة (شخصية الشاب) من حكايتنا الجميلة دي. غير كل ده.. الفيلم أعتبره (تركي) جداً من صميم المجتمع، الشوارع وأشكال العربيات والميناء اللي مطل على البحر والجبال والثلوج المتساقطة والبرد القارس والشعور الحميمي بالمكان.. معنى حقيقي انك تعيش فـ قلب القصة شكلاً من بيئتها المكانية، وموضوعاً فـ تطور أحداثها.. ميتهيأليش فيه وقت أنسب من اللي احنا فيه ده للفرجة على الفيلم لأن أجوائه (شَتَوية) بصورة عظيمة فـ رأيي. الفيلم ده من أنواع الأفلام الشاعرية اللي ممكن حتى لو اتحرقلك قصتها فـ انتا عايز تشوفها!.. الأفلام دي فيها نبرة شاعرية مع طريقة سرد قصصها بحيث تجعلك مش مهتم بالحبكة والتتابع القصصي والـ(ماذا سيحدث؟).. لكنها بتخليك ترغب بالأساس فـ انك تعيش حالة موازية تلاقي نفسك فـ دهاليزها شخص تاني، الحالة الشعورية و(كيف سيحدث؟) هيا الطاغية على نمط الأفلام ده.. ده فيلم يعبر جداً عن الفكرة دي فـ تقديري. فيلم فيه كمّ هائل من المشاعر والهدوء الزائد -والعظيم إلى أبعد حد- اللي بيسبب (عصف ذهني) فـ دماغ المتلقي، بحيث انه ممكن يعض يفكر على مدار الفيلم فـ كامل حياته ماشية ازاي.. ولا يُخطئك الجوّانيات بتاعت مخرجه اللي كان السبب الرئيسي فـ نجاح نقل الحالة دي. متهيألي ده فيلم الواحد حابب يقرا كتير عنه لأنه عارف ان أي كتابات عنه مش هتتكلم عن (القصة) قد ما هتتكلم عن طريقة إستقبالها والمشاعر اللي أوجدتها فـ الكاتب، وأنا مقدّر أوي النقطة دي.. تعض تكتب عن مشاعرك اللي فيلم حلو كان السبب فيها هوا أكيد حاجة جميلة.. وأي حاجة جميلة هيا حاجة حلوة.