أؤمن جدا بالرأي القائل بأن أصعب ما يمكن الكتابة عنه هو الأفلام رائعة المستوى والأفلام شديدة السوء. فكلتا الحالتين تضعان الكاتب أمام مشكلة في اختيار طريقة التناول ومحتواه. ربما لهذا السبب تأخرت في كتابة رأيي في فيلم (دكان شحاتة) والذي شاهدته قبل خمسة أيام تقريبا.
لا أعتبر نفسي من محبي خالد يوسف. وأملك العديد من التحفظات على مستوى السينما التي يقدمها ومدى تناسبها مع (الكلام الكبير) الذي اعتدنا أن نسمعه منه تزامنا مع طرح أي عمل جديد له. وأراه مجيدا للتنظير والظهور بمظهر المفكر والسياسي المحنك بقدر أكبر بكثير من إجادته على كرسي الإخراج. ولكني كنت بالرغم من كل ذلك حريصا على مشاهدة كل عمل جديد له. ربما لأني اعتدت أن أجد (شيئا ما) يعجبني في كل فيلم كالحوار في (انت عمري) والصورة في (حين ميسرة). دخلت (دكان شحاتة) باحثا عن هذا الشيء فوجدت العديد من الأشياء التي لا يمكن السكوت عنها.
بداية يمكنني أن أتصور بوضوح قائمة الأهداف التي وضعها خالد يوسف للفيلم ربما قبل أن يصور مشهدا واحدا منه. أراد أن يقدم عملا ملحميا يقترب من شكل السيرة الشعبية يلخص فيه أحوال مصر في فترة حكم الرئيس مبارك. وأراد أن يثبت ناصريته ويؤكد أن الحل الوحيد لأزمات مصر الحالية هو العودة للتعاليم الناصرية عبر حكاية شديدة الرمزية. وأراد أيضا أن يرى الناس عبقرية اختياره المفاجئ لهيفا وهبي التي ستكشف عن موهبة تمثيلية خفية تؤكد أن الأستاذ يرى ما لا نراه. قام خالد يوسف بتحديد أهدافه، وفشل فشلا ذريعا في أن يحقق أي من هذه الأهداف!
فصناعة الملحمة الشعبية تحتاج لما هو أكثر من شريط شديد الطول لدرجة الملل مليء بأغاني الندب، وما هو أكثر من مشاهد المجموعات والقتال، وما هو أكثر من (نقش) الشكل الخارجي لشخصية منتصر التي لعبها النجم أحمد زكي في (الهروب) أحد أهم الملاحم الشعبية في السينما المصرية. الأمر يحتاج قبل كل ذلك لشخصية البطل وللسيناريو الذي يحركها. فبطل السيرة الشعبية يكتسب شعبيته من اقترابه من الناس ومن تمتعه بصفات تدفع المشاهد للتعاطف والتوحد معه بالرغم مما قد يرتكبه أحيانا من أخطاء قد يرفضها المشاهد في حياته العادية. فمنتصر الذي اعتقد خالد يوسف وعمرو سعد أنه مجرد (كوفيه وشارب وأوفرول صوف) قد ارتكب جريمتي التزوير والقتل. ولكن الجمهور تعاطف معه لما مسّه من قيم الانتماء والنخوة. بينما لم يقدم شحاتة للمشاهد ما يؤهله ليصبح بطلا شعبيا أو حتى بطلا عاديا. فلا يوجد ما يبرر خنوعه الكامل لسلطة شقيقيه وتطاولهم الدائم عليه رغم علمه بالمخالفات التي يقومون بها داخل الدكّان من سرقة وزنا. وإن كانت رغبته في عدم الخلاف معهما تبرر تقاعسه عن أخذ حقه الشخصي (وهي بالأساس حجة واهية)، فلا يمكن أن تبرر تنازله عن حق والده الذي سُرق ماله ولوّثت سمعته بينما ابنه (البطل) مستمر في السكوت.
وعلى الجانب الرمزي الذي أراد المخرج فيه أن يقلّد أستاذه يوسف شاهين فقد اختار شخصية شحاتة لترمز للشعب المصري (وهو أمر مستفز قياسا لما ذكرته مسبقا من عيوب بالشخصية). بينما هدته عبقريته لأن يقدم رمزية مزدوجة لقيمة الوطن. أحد طرفاها هو الجانب المكاني المتمثل في الدكان والارتباط العاطفي معه باعتباره رمزا للبقاء كأرض الوطن. والطرف الآخر هو الحبيبة هيفا وهبي والتي ترمز للوطن من ناحية الجمال والخصوبة والتمنع عن الأعداء. بينما رمز الأب محمود حميدة للسلطة الناصرية التي بدأت الحكاية بالحصول على جزء من أرض صاحب الفيلا الأرستقراطي (كرمز للإصلاح الزراعي) وقام المخرج بتأكيد رمزية الأب عبر المشهدين المتضمنين صورة الزعيم جمال عبد الناصر. بينما يرمز الشقيقان للسلطات التالية لناصر والتي حادت عن طريقه القويم مما سبب كل المشاكل. وكان البلطجي البرص هو رمز البلطجة التي ظهرت في الشارع المصري نتيجة للسلطة الفاسدة. ما رأيك في هذا القدر الغير مسبوق من الرمزية؟ لم أكن أعتقد أن هناك مخرج قادر على وضع كل هذه الرموز في عمل سينمائي واحد حتى جاء العبقري خالد يوسف وأكد لي أنني كنت مخطئا. فها هي كل الرموز تجتمع الفيلم. لا يهم أن يكون هذا الاجتماع على حساب لي عنق السيناريو الذي تحول لمجرد خلفية لمشاهدة هذه الرموز. وتحول دور مَشاهد الفيلم من كونها خطوات لخدمة الحكاية لأن يحمل كل مشهد عنوانا من نوعية (ماذا سيحدث عندما يتقابل الشعب مع الوطن بعد غياب؟) و (ماذا سيحدث عندما يقرر الشعب الثورة على السلطة الراهنة؟).. ولا عزاء لفن السينما الذي ضل الطريق بداخل هذا (العجن) السياسي!
نأتي أخيرا للطامة الكبرى.. هيفا وهبي بطلة ملحمة شعبية تجسد فيها دورا يرمز لمصر! أعتقد أن الجملة السابقة وحدها كافية للتعبير عن مدى المهانة التي شعرت بها وأنا أرى مصر التي كانت سابقا محسنة توفيق (البهية) وشادية (الفؤادة) لتتحول على يد العبقري خالد يوسف لهيفا (بيسه) والاسم وحده أيضا كاف ليدل عن مدى تردي الشخصية على جميع الأصعدة سواء المكتوبة بتفكك درامي وتصرفات أقرب للكاريكاتير، أو المؤداة بسطحية وعدم فهم شديدين من السيدة المبجلة هيفا والتي تحولت مصر التي وصفت من قبل بالقوة والصمود والخصب والجمال على يدها لامرأة كل مؤهلاتها هي جاذبيتها الجنسية. وسأترك القارئ ليدرك مدى استيائي عندما شاهدت مشهدا كاملا لمصر وهي تنزل للمولد بتنورة قصيرة وتركب مرجيحة ليتجمع كل حاضري المولد لمشاهدة ملابسها الداخلية! أو لشقيق السيدة المبجلة وهو يأمرها بشكل مفاجئ بأن ترقص له وللبطل لتنخرط النجمة في رقصة امتدت لعدة دقائق لا أدري سبب تواجدها على شريط الفيلم اللهم إلا لتلبية رغبة المشاهدين (لا مجال هنا لشعارات الرقص في سياق الدراما!).
ملاحظة أخرى.. عمرو عبد الجليل موهبة تمثيلية كبيرة. ظلمه ظروف السوق وارتباطه بيوسف شاهين لسنين عديدة. وسعدت جدا عندما وجدته يعود للساحة في (حين ميسرة). وشعرت بالإحباط لموافقته على أداء نفس الدور تقريبا في (دكان شحاتة). وأخشى على هذه الموهبة من أن تتحول لمحمد سعد جديد خاصة وقد علمت أن خالد يوسف بصدد إسناد دور البطولة في فيلمه القادم لعمرو عبد الجليل. عمرو قام بتكرار نفس الأيفيه اللفظي المتعلق بذكر الشطر الأول من أحد الأمثال الشعبية واستكماله بشطر من مثل آخر أكثر من عشر مرات على مدار زمن الفيلم. وفي كل مرة وجدت قدرا أكبر من الإفلاس لهذه الشخصية الكوميدية التي ينبغي على عمرو أن يطلقها بالثلاثة إذا أراد الاستمرار ضمن الممثلين المميزين.
دكان شحاتة تجربة سينمائية مريرة بكل المقاييس. وحبي لتجربة المشاهدة في قاعة العرض والذي يشفع عندي للعديد من الأفلام المتوسطة لم يكن كافيا ليجعلني أندم بشدة على الوقت الذي أضعته من عمري في مشاهدة هذا الهراء.