منذ سنوات مررت بالجدار العملاق أمام الشاطيء في السويس والذي خصصته دار العرض الوحيدة هناك لوضع أفيشات الأفلام التي تتغير بمعدل أسبوعي يوم الأربعاء، وحدث أن كان المعروض فيلم (مجرم مع مرتبة الشرف) لرغدة وهشام عبد الحميد، في اليوم التالي اختفى الأفيش، وعرفت أن الفيلم لم يستمر لأكثر من 48 ساعة في دور العرض. منذ أيام وأثناء عودتي من مستشفى المنيرة سيرا لمنطقة السيدة زينب على سبيل تبديد جو عمل المستشفى الكئيب من البال، كان أفيش (حصل خير) يتصدّر واجهة سينما الشرق، وخطر لي أن الدعاية والعرض في إطار منطقي جدا؛ فهذا فيلم الرقص البلدي والدي جي الشعبي والتوكتوك وردح الجارات في نوافذ الحارات. في اليوم التالي اختفى الأفيش، وحل محله فيلم (غش الزوجية) الفيلم الرابع لرامز جلال ويبدو أنه سيلحق بمصير الأفلام الثلاثة الفاشلة السابقة مهما حاول تنعيم شعره واصطحاب إدوارد على البلاج، ومن إخراج أحمد البدري الذي يعرض له في نفس التوقيت (جيم أوفر) والظاهر أنه بنفس التفاهة. طيب إذا كان الفيلم المصنوع في الأصل لجمهور شعبي سقط في حي شعبي جدا، فما هو مصيره يا ترى في مولات مدينة نصر؟ الفكرة أن صنّاع السينما التجارية أو الجادة غائبين عن الطفرة البطيئة المستمرة التي تبدّل جلد المواطن وترفع نجوم وتغيّر أذواق بكيفية يحسبها الغافل ضربة حظ. عائلة السبكي تستطيع تصنيف كيلو اللحم بين أربعين جنيها وستين جنيها حسب إضافات الدهن، لكنهم أبعد ما يكونوا عن متابعة السوق بشكل جيد. لهم العذر في هذا، فهم في ستوديوهات ومكاتب مغلقة يعدّون أفلامهم في ما يشبه خط الإنتاج: مرر الشريط من هنا. ضع هنا رقصة في اسكتش فكاهي داعر. وهنا طفل ما يحاول أن يبدو ظريفا لكنه يفشل. ثمة ابتكار للسباب في شجار مفتعل وكلام عن البانجو والمطاوي. ركّب هنا مشهد لشقة دعارة بمستلزماتها: قمصان نوم فسفورية- دعابات سمجة عن العجز الجنسي-نحيف بفانلة بحمالات وبدين مترهل الأثداء وزنجي طويل لابد وأن يصفونه بشيكابالا (هذا الفريق الموجود في كل مسرحيات سمير غانم الأخيرة). صحيح أن شباب الحواري ونسوة الأسواق لم يصل بهم الرقي الدرجة التي يتقززون بها من أفلام كهذه، ولا يحملون الآن كتب ماكسيم جوركي على النواصي، لكنهم كذلك لم يعودوا بهذه النمطية السخيفة، نحن في عام 2012 وفي هوليوود أفلام تناقش نهاية العالم وسير الفلاسفة، بينما نصر على الراقصة الدلوعة خرّابة البيوت التي يتهافت عليها الأزواج! (الفيلم كان اسمه "أربعة على واحدة"). هذا الغياب يعانيه مبتكرو الدعاية التليفزيونية ومخرجو أفلام الشباب الأرستقراطي حيث الشركات كأنها في مانهاتن وفواصل المكاتب زجاجية وكل الموظفين يرتدون بذلات سوداء ويوجد نسكافيه في الصباح وبيرة ليلا! هذا الجو المستحدث لا يحدث في أي مكان إلا تقليدا لأفلام يعتقد صانعيها أن هذا الجو موجود فعلا!! عزيزي السبكي، لقد كف الشباب منذ عقود عن لعب دور ابن الحارة العترة وأن تثيرة جلاليب بنات بحري، .. في الألفية الثالثة أغنية عن الخلخال يا خال؟! لكنك تعرف كيف تُعبّيء البكرة بسرعة كما كانوا يفعلون في أفلام النكسة، عندما كان هناك ثلاثة شبّان طائشين ونجوى فؤاد في حانة ما وغسان مطر يبحث عن الماس أو المخدرات وسهير رمزي ترتدي المايوه في البيت! الشباب اليوم مهما كانت طبقته متدنية أو متدينة يحاول تقليد الشباب الأنيق المتحذلق في أفلام شرم الشيخ والمطبخ الأمريكاني ومضارب البيسبول والسوشي. حتى سعد الصغير في فيلمك يرتدي حلة فاخرة مع فريقه في كباريه، وأصحاب محلات الجزارة الآن لا يمسكون الساطور وعليهم جلباب ملوث بالدم، لم يعد أحد بهذه النمطية البريئة يا عمنا. قمر هي بديل دينا في الفيلم السابق لنفس فريق العمل (شارع الهرم)، لتجديد الأشكال وتنويع الأفخاذ والصدور أو تحسبا لتمرد الأخيرة أو بعد حرق كارت مروى بسبب كليبها الفاضح. قمر مطربة جميلة نوعا لكنهم هنا يضيفون إليها كل إكسسوار شعبي ممكن ليصبح لها إغراء الحواري البشع: جوارب سمراء شفافة، كحل سميك، دلع ماسخ، والكثير من الترتر، باختصار؛ الجيل الجديد من هياتم في مقاولات التسعينات. ذات الوجوه الكئيبة التي تحاول أن تبدو (بيئة) وإن لم تكن، عدا أن لطفي لبيب المخضرم يمثل بدافع القرف فعلا، وطارق الشيخ الذي يستثمره السبكي هنا بنفس منطق استخدام قمر، سالف الذكر، تحسّبا ليوم كالح يضع فيه سعد الصغير ساقا فوق ساق مطالبا بزيادة في الأجر أو أن تجاور غرفته غرفة (ساندي) عندما يستعين بها السبكي عام 2017. (جنا) هي طفلة بريئة أخرى يصرون على الزج بها في هذه المزبلة، كما فعلوا مع (منه) التي تُعالج الآن في مسلسل هاديء نوعا هو راجل وست ستات، وأوشا الذي يبدو أن لا بأس لديه من بعض التشرد واكتساب خبرات الرعاع، جنا كأغلب الأطفال، مدهشون في الصور ويخطفون البصر، ويستطيعون في بلدان أخرى أن يجعلوهم يسرقون الشاشة، لكننا هنا نحمّلهم ما لا يطيقون من أغاني شعبية ونكات بذيئة القوافي، وتظرّف لا يُحتمل، فبدت (جنا) اللطيفة ثقيلة الظل جدا وشديدة الرخامة. لا أحد ينتظر من طاقم السبكي تقديم فيلما ثلاثي الأبعاد أو قصة حياة فاجنر، لكن اللافت للنظر هنا هو غيابه عن رجل الشارع، رهانه الوحيد وإن كان بالخسارة، ربما لأن رجل الشارع نفسه صار غريبا عن نفسه، وربما لأن أبناء السيدة زينب والزاوية الحمراء والمطرية بسبب مقدرات مادية وطفرة الأقمار الصناعية والنت صار بمقدورهم احتلال المقاعد في سينما مترو أو جالاكسي التي كان يرتادها الصفوة في عهود سحيقة كانت تعرض سيدة القصر والأب الروحي، ولم يعد هناك صاحب الجلباب أو المتدثرة بإيشارب للهتاف والصفير في مدرجات الترسو عندما يفتك فريد شوقي بالأشرار أو ينقلب محمد عوض على قفاه أو يخطف عمر الشريف قبلة من فاتن حمامة. هذا فيلم فقد جمهوره وهو مصنوع للصحبة الحلوة وهزار الماكينج السمج والاحتكاك بقمر بلا مناسبة في الكواليس. من يشاهد فيلما كهذا؟ ربما تظن أن لا أحد، يشهد على ذلك الأفيش المخلوع، كما أفلام الستينات العبيطة وعلب فيديو التسعينات، لكن لا تظن أن السبكي يندب حظه الآن ويصرخ (يا سنه سوخه يا ولاد)، هذا الرجل استعاد ما دفعه وأكثر في كليبات الفيلم التي تذاع على قنوات الشعبي وما أكثرها، وعقد العرض الأول على إي آر تي ثم روتانا ثم دي في دي تجده عند باعة الجرائد في إشارات شارع جامعة الدول العربية، دعك بالطبع من بعض العلاقات الجيدة، وبارك الله فيما رزق. لنا الله!