ينغمس شريط السينما فى زحام شوارع القاهرة وبين جنبات بيوت الطبقة المتوسطة التى تدهور حالها كثيراً، البيوت تبدو متماسكة رغم الوهن البادى عليها بوضوح، ولهذه البيوت والشوارع عبق خاص وخصوصية تكونت عبر سنوات من حياة البشر، غرف البيوت شاهد على ضحكاتهم وأنفاسهم ودموعهم وأرض الطريق لمست خطواتهم المترددة واليائسة والفرحة، شخصيات الفيلم يبدو عليها الوهن رغم تمسكها بحلم لايتحقق. فى بداية الفيلم يجتمع ثلاثة شخصيات فى موقف غريب يبدو جاداً وعبثياً وكوميدياً فى نفس الوقت، الأول فنى تركيب الدش يوسف (شريف منير) الذى يضطر لصعود عشرة أدوار بدون أسانسير حاملاً طبق ساتالايت كبير، والشخصية الثانية هى صاحبة الشقة التى تعزف على آلة الهارب أمام الفتاة العملية جميلة (حنان ترك) التى ستشتريه منها لصالح أحد المحلات، ويبدو كل منهما مضطراً أن يفعل مايفعله دون اقتناع: عازفة الهارب تبيع مضطرة، والفتاة تشترى وتبيع أى شىء لتكسب جنيهات قليلة لانها لاتجد عملاً ثابتاً، وفنى الدش لاتهمه الصفقة على الاطلاق ولكنه اضطر أن يكون طرفاً فيها. تتألق هالة خليل الكاتبة والمخرجة فى قص ولزق حكايات متناثرة من الواقع لتكون حدوتة عذبة بسيطة مليئة بالمشاعر والهموم والأمال ومرح الانسان، انها تحكى عن شخصيات تتكامل ولا تتصارع، وهى لاتخرج عن حدود المنطق والمعقول فى الواقع، ولكنها تحيل الواقع بتفاصيله الى اجواء الحدوتة الساحرة التى تضع هى قانونها وأسلوب سردها. تحكى الحدوتة منذ بدايتها حكاية يوسف وجميلة، الأول شاب تقدم به العمر ويعيش مع شقيقه الاكبر يحى (أحمد سرحان)، حلم كل منهما الزواج ولكنهما لايملكا سوى شقة العائلة التى يعيشا فيها سوياً منذ كانا أطفال صغار، ورغم ارتباطهما الأخوى الا أن لكل منهما رد فعل مختلف فى رفض ظروفه والتعامل معها، ففى حين يبدو يوسف زاهداً راضياً بما تسوقه اليه الحياة، يبدو الشقيق الأكبر محاولاً اقتناص فرصة قد تكون أخيرة للزواج تصطدم برفض اهل العروس أن تعيش ابنتهم مع شقيق زوجها فى نفس الشقة، علاقة الشقيقين وتضحيتهما المتبادلة من أجمل مشاهد الفيلم وأرقها. البطالة والحب والرغبة والعنوسة ومشاكل المدينة الخانقة قد تكون موضوعاً لفيلم ثقيل وكئيب، ولكن الأسلوب الجذاب والذى لايخلو من لمسات ساخرة وكوميدية يجعل متابعة العمل مشوقة بالفعل، انها حدوتة عن أشخاص ضجوا بوطنهم أو ضج بهم وطنهم، اختلطت عليهم الأمور حتى لم يعودوا يعرفوا اذا كان العيب فيهم أم فى الوطن، تحاول البطلة بعد أن وصل عمرها الى 30 عاماً دون زواج أو عمل محدد الهروب الى هجرة الى نيوزلندا، وعلى نحو ما يبدو باقى أشخاص الفيلم فى حالة هجرة أو هروب من واقعهم الى عالم أخر، الشاب سامى (فتحى عبد الوهاب) الذى يحمل تحت ابطه دوسيه به شهاداته تنحصر أحلامه فى الحصول على سجائر البانجو وقنوات دش تعرض أغانى الفيديو كليب العارية للتنفيس عن رغباته الجنسية المكبوتة، انه لايحلم بالزواج لان ذلك يدخل فى بند المعجزات وليس الأحلام، وهذا الحلم يتلاقى مع حلم زينب (مروة مهران) التى تسعى للزواج لتضع الاطار الشرعى لرغباتها التى أرهقتها أسطوانات الحب ! من أجمل عناصر الفيلم أماكن تصوير الفيلم، بيوت الطبقة المتوسطة التى تحمل بين جنباتها تجاعيد الزمن، وهذا التناقض بين الشخصيات الشابة والبيوت التى تحمل تفاصيل كلها قديمة يحمل هموم جيل يعيش على بقايا ورثها عن أهله ... السكن والأثاث وربما براد الشاى القديم أيضاً، وأضاف التصوير فى الشارع الى الحدوتة ثقل خاص وأعطى بعداً مكانياً واقعياً التقطته عين مدير التصوير طارق التلمسانى بمهارة، واشتركت الصورة مع موسيقى تامر كروان فى مصاحبة الأحداث وكان واضحاً هذا التفهم لأجواء الفيلم ومود كل مشهد. شريف منير التزم باطار الشخصية الدرامية، وجاءت انفعالاته المترددة وشديدة الهدوء مناسبة للشخصية، وأجادت حنان ترك فى تقديم شخصية الفتاة العملية المتمردة التى تغلف مشاعرها بقسوة مصطنعة، جاء أداء فتحى عبد الوهاب عميقاً ومتوحداً مع الشخصية الحالمة لشاب يعانى البطالة والكبت، وأدت مروة مهران دوراً شديد الصعوبة بتلقائية شديدة وكانت احدى مفاجأت الفيلم الحقيقية، أحمد سرحان قدم دور شديد البساطة للأخ الأكبر الحائر بين رغباته والتزامه نحو شقيقه، وقدمت سوسن بدر دور الأم الأرملة بنضج شديد، حنان مطاوع رغم دورها القصير الا أن مشهدها فى السينما واحد من المشاهد المؤثرة والمعبرة. حدوتة هالة خليل تنتصر للمشاعر الانسانية وترفض الواقع الشاذ الذى تحفل به صفحات الحوادث عن صراع الأشقاء وحوادث الاغتصاب والسرقة، انها تقدم واقع مواز أو حدوتة من وحى الواقع، تقول فيها: كان ياما كان .. كان فيه انسان تعبان، يصارع الحياة ليبقى انسان.