«ثعلب وول ستريت»: نهود واموال .. وخيبة آمال

بالطبع اكره تطفل اجهزة الرقابة، فى الدول العربية، على رؤية المخرجين ووصايتها على عقل المشاهد وذوقه، واكره ايضا سياسة القص الاقتصادى التى تفرضها دور العرض على الافلام بالغة الطول الزمنى حتى تتمكن من عرض الفيلم ستة عروض يومياً بدلاً من خمسة فقط؛ لتربح اكثر، كل هذه سياسات مرفوضة عندى بشكل مبدئى، وهى امور تجعل من فكرة الذهاب لدار عرض لمشاهدة فيلم تقييمه الاصلى R او NC-17 كفيلم سكورسيزى الاخير مثلا، هى فكرة مستبعدة لدى، فيصبح حينها انتظار نسخة الانترنت الكاملة هو الخيار الارجح. ولكنى استطيع القول الآن، بعد ان شاهدت بالفعل نسخة الفيلم الكاملة التى لم تعرض فى مصر بالطبع، ان حماسى وتعاطفى مع ذلك الفيلم، نظراً لما تعرض له من اغتصاب مونتاجى جماعى اشترك فيه الموزع الداخلى مع الرقابة لتقليل زمن الفيلم قدر المستطاع وحذف كل ما يتعلق به من مشاهد جنسية، يمكننى القول بأن هذا التعاطف قد قل جداً، وان بقى المبدأ.

الافلام التى يقترب زمنها الفعلى من الثلاثة ساعات كانت دائماً ما تثير انتباهى وتجذبنى اليها، ظناً منى بان هذا الامر يعد مغامرة لابد وان من يخوضها يمتلك اسباب وجيهة للدرجة التى تجعله يقاتل من اجل التمسك بهذه المدة الطويلة والشاقة على المنتج والموزع والمتفرج على حد سواء، الى ان جعلنى «ثعلب وول ستريت» اعيد تقييم ذلك الظن، فالفيلم باختصار ممل، رغم ان ما يحدث على الشاشة مثير جدا، ولكنها ليست اثارة فيلم روائى، بل اثارة مقاطع "الفيديو" الفاضحة، او لقطات "الموبايل" الطريفة، او برامج المقالب الكوميدية، فلقد غاب ما يمكن وصفه بانه صراع او حبكة فعلية لمدة تخطت الساعتين ما يعنى اكثر من ثلثى زمن الفيلم، وظهرت حياة رائعة ورغدة ومليئة بكل اللذات والممتعات والمفرحات، من مخدرات وخمور وحسناوات وعاريات وممارسات فيتيشية للجنس واموال طائلة ونجاح مهنى ساحق ...الخ، ليطفو السؤال المهم، ماذا بعد؟! .. فتأتى الاجابة بانه ليس هنالك "بعد" يستحق الاهتمام، هى مجرد قصة صعود وهبوط عادية، تم حشوها بمجموعة استعراضات وابتذالات لتأخذ شكل فيلم.

لست ممن يقيمون الافلام بمقاييس اخلاقية بالطبع، ولا توجد عندى ادنى مشكلة فنية من قيام شخصيات اى فيلم باى سلوك اخلاقى او غير اخلاقى، ولست حتى بصدد رفع شعار "البوس الهادف اللى فى سياق الدراما"، فالاهم لدى هو هل هناك دراما من الاساس ام لا، والاجابة بالطبع هى لا، اللا لو كنت تعتبر انفصال رجل اعمال عن زوجته ثم زواجه من السكرتيرة، وهى واحدة من اكثر الافكار استهلاكاً منذ ان اخترعوا السينما، على انه دراما!

ليست لدى مشكلة ايضا مع افلام "التهييس"، بل ان واحد من اهم افلامى المفضلة فى العام الماضى كان منها وهو فيلم This Is the End، هذا لو اعتبرنا ان «ثعلب وول ستريت» اقرب ليحسب علي تلك النوعية، ولكن يبدو انه غاب على صناعه بان حتى سينما "التهييس" لها منطق فى الضحك والتواصل مع المتفرج، وليست مجرد خلطة من النهود والشتائم والحفلات.

لن اقول ان الفيلم خالى تماماً من عناصر جيدة وممتازة، على رأسها اداء ديكابريو الذى قدم افضل اداء له فى مشواره والفنى، بجانب الاخراج، الذى استنفذ سكورسيزى فيه كافة محسناته البديعية وبهاراته الفنية من اجل ان يتحايل على حقيقة ضعف السيناريو (اى ضعف اهم عناصر الفيلم)، هذا السيناريو المبنى على كتاب السيرة الذاتية لبطل الفيلم، والتى حدثت بالفعل منذ ثلاثة عقود، عن قصة صعود بائع اسهم باحد شركات "وول ستريت" كان يمتلك مهارات فذة فى اقناع من امامه بشراء اياً ما كان يعرضه من سلعة، ليستخدم تلك المهارة فى انشاء شركة خاصة به ثم يبدأ فى الاحتيال على زبائنه، ليتم سجنه فى النهاية ويأخذ عقابه، ثم يحكى تجربته فى الكتاب الذى بنى عليه هذا الفيلم.

مواطن ضعف السيناريو وضحت بداية من عدم تطور الشخصيات، حيث يبدأوون كاوغاد طماعين وينتهون كاوغاد طماعين. مروراً باحادية ابعادهم، فهم يتصرفون دوما بما هو متوقع مهما اختلف الموقف او المكان او من معهم، ليو فى عمله مثل ليو مع زوجته مثل ليو مع عمته مثل ليو مع المباحث الفيدرالية. رغم مدة الفيلم الباهظة لم يضعنا السيناريو امام نموذج واحد لضحايا احتيال ليو، ولم يطلعنا بشكل ادق عن تفاصيل تلك الاحتيالات، ولم يطلعنا برؤية اوسع على ما يدور فى "وول ستريت" التى هى جزء من عنوان الفيلم، ولم يعرفنا بعمق على زوجة ليو الاولى ما جعلنا لا نقف كثيرا عند انفصالهما، الذى كان ابرز حدث فى الفصل الثانى من الفيلم، كانت رؤيته عشوائية ومشتتة، فلم نفهم ان كان الفيلم عن الادمان ام الغنى ام الطمع ام الموهبة ام ماذا .. والاهم من كل ما سبق انه لا يوجد صراع فعلى على مدى طويل من الفيلم، وحتى الصراع الذى نشأ فى الثلث الاخير مع المباحث الفيدرالية تم تهميشه وتشتيته ببعض الهراء الفرعى .. قصة الصعود والهبوط الحقيقة لذلك الشخص يمكنها ان تملأ فيلم مدته ساعة على اقصى تقدير، اما الثلاثة ساعات فكانت "علقة" سينمائية غير متوقعة من مخرج عظيم.

ينتهى الفيلم بمشهد للشخصية الرئيسية تلقى ندوة لتعليم الحاضرين كيفية بيع اية سلعة مهما كانت، وهو ما احترفته تلك الشخصية، حتى مع ذلك الكتاب الذى بنى عليه الفيلم، يبدو ان سكورسيزى هذه المرة كان آخر ضحايا ذلك الرجل المحتال عندما قرر شراء حق تحويل سلعته الادبية الى فيلم سينمائى واخراجه، بواحد لن استطيع تصنيفه كاسوأ افلامه، لأن هذا اللقب لا يستحقه اللا «هوجو»، ولكنه واحد من اضعف افلامه بلا شك، وليس لدى تفسير لايمانه بتلك القصة سوى انها عملية احتيال اخرى من «ثعلب وول ستريت».