من بين كل الأزمات التي تقاسيها السينما المصرية منذ سنوات طويلة، تظل أكثر الأزمات حضورًا وإلحاحًا – بالنسبة لي – هي الأزمة الإبداعية، والتي يتجلى مظهرها الأساسي والمتكرر في اختلال الأولويات لدى صانع الفيلم في مصر، حيث الاهتمام الزائد من طرفه بما يريد قوله على حساب كيفية قوله وصياغته بطريقة تليق أكثر بطبيعة الوسيط السينمائي، وليس بما يليق بالوسيط الإعلامي أو بوسائط أخرى ذات طبيعة شعبية وشفاهية مثل خطب الجمعة أو المجالس ذات النكهة الاجتماعية.
قد تبدو الفقرة السابقة ثقيلة وذات طابع أكاديمي بحت، لكنها كانت لازمة للغاية عند تناول فيلم "الملحد"، التجربة الكتابية والإخراجية الأولى للمخرج نادر سيف الدين، والذي واجهته العديد من المشاكل قبل وبعد التصوير من تكرار تأجيل موعد العرض والتعنت الرقابي وغيرها من المشاكل حتى وصوله لدور العرض السينمائي في يوم الأربعاء الماضي، والذي يتجلي في جانبيه الدرامي والفني - في ذات الوقت – الصورة الكاملة والمفجعة للأزمة الإبداعية.
بالنسبة للجانب الدرامي، فإن أولى المشكلات التي تواجهنا هى الطريقة التي ينظر بها الكاتب والمخرج إلى بطل فيلمه نادر أحمد الشيخ (محمد عبدالعزيز)، وهي نظرة فوقية جدًا تنطوي على الكثير من التعالي، مما يترتب أنه يطلق حكمًا أخلاقيًا على بطله الرئيسي، والأسوأ أنه يخلط بين هذا الحكم الأخلاقي والتوجه العقائدي للبطل المتمثل في الإلحاد، مفترضًا وجود ربط اشتراطي بينهما بالضرورة، بالرغم أنه لا يفترض بصانع أي فيلم أن يحكم على شخصياته، وإنما أن يفهم دوافعها ومبرراتها ليتناولها بشكل أكثر نضجًا وأكثر إنسانية، وليس لكي يجعل منها "عبرة لمن يعتبر" أمام المشاهدين.
النتيجة الأكيدة والطبيعية لتناول كهذا أن الشخصية ستصير منمطة وأحادية البعد بقدر هائل، وهو ما انعكس فعليًا على الطريقة التي يؤدي بها محمد عبدالعزيز شخصية نادر حسبما رأها من النص المكتوب وحسب توجيهات المخرج، حيث يظهر في غالبية مدة الفيلم عابسًا ومهملًا لعمله وذو ابتسامة جانبية مستهزئة بشكل شيء، ويتعامل بطريقة بالغة القسوة مع كل أفراد أسرته، خاصة مع والده (صبري عبدالمنعم) والفتاة التي تحبه (ياسمين جمال). والغريب في الأمر أنه يتحول للنقيض تمامًا على حين غرة في الثلث الأخير من الفيلم، وبدون تعليل كافي لهذا التغير إن لم يكن هناك تعليل من الأساس.
المشكلة الثانية هى رغبة المخرج في زيادة التأثير الدرامي لقصته، مما أدي إلى اكتسابها الكثير من الميلودرامية، كما أنه يحمل جميع المشاكل والابتلاءات التي تحل بالعائلة على عاتق الابن العاق الملحد، فالأب يموت كمدًا، والشقيق يفسخ خطبته "حتى لا يُحمل خطيبته عبء المشاكل التي سببها إلحاد الأخ"، والأم (ليلى عز العرب) والفتاة التي تحب نادر لا تفعلان أي شيء طوال الفيلم سوى البكاء والنحيب.
المشكلة الثالثة هى المبالغة في تصوير بعض التفاصيل داخل الفيلم، مثل أن يتم تجسيد جميع الملحدين داخل أحد الشقق المفروشة وكأنه وكر للمخدرات أو للدعارة، رغم أنهم من الممكن أن يتجمعوا ويتحدثوا بحرية كبيرة في أي مقهى من مقاهي وسط البلد، أو أن يدفع مصطفى لأحد أتباع البروفيسور (حسن عيد) مبلغًا هائلًا مقابل أن يوصله له، وكأن البروفيسور زعيم عصابة يتطلب الوصول إليه كل هذا العناء، ناهيك بالطبع عن مشاهد الصحيفة، وتفرغ رئيس التحرير الكامل لملاحقة الداعية أحمد الشيخ (صبري عبدالمنعم) وأي شيء يتعلق به وبعائلته، مبررًا ذلك في مشهد خطابي طويل يحمل روح (بروتوكولات حكماء صهيون).
أما عن الجانب الفني، فتأتي المحصلة النهائية لتكون أقرب للسهرات التليفزيونية التي تعرض بعد منتصف الليل في التليفزيون المصري أكثر منها للفيلم السينمائي، فما يقرب من 90% من مشاهد الفيلم مصورة في ديكورات داخلية، حابسًا شخصياته معظم الوقت بداخلها ومهدرًا للكثير من إمكانيات التصوير الخارجي، كما أن منهج التصوير عتيق للغاية في استخدامه المكثف للقطات القريبة والطويلة، ويقترب من طريقة تصوير الفيديو في مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات.
الأكثر من ذلك أنه من فرط اعتماد الكاتب والمخرج على الحوار وشريط الصوت، يمكن للمشاهد ببساطة أن يدير ظهره للشاشة ويكتفي بالاستماع إلى الحوارات الدائرة والمحاججات الوعظية حول الإيمان والإلحاد ويعتبره بمثابة تمثيلية إذاعية، بالإضافة إلى حضور الموسيقى بمناسبة وبدون مناسبة طوال الوقت حتى لو لم يستدع الأمر اللجوء إليها، كما أنها تعلو في الكثير من الأحيان على حوارات الأبطال لدرجة دفعت الكثير من المشاهدين في صالة العرض أكثر من مرة لسؤال من يجاورهم عما كان يقوله أبطال الفيلم.