توقعت ان يكون رضوان الكاشف قد قضى طيلة 6 اعوام يكتب في رائعته عرق البلح، وهو فيلمه الثاني والذي سبقه تجربته السينمائية الأولي ليه يا بنفسج في 1993، وعلى الرغم من اعتقادي، واحتساب مدة 6 سنوات كمدة طويلة لكتابة وتنفيذ فيلم واحد فقط، ولكن مستوى الفيلم يصيب من يراه بالذهول فهو بالقطع لم يكتب في 6 اعوام بل في اكثر من ذلك، وهذا حقيقة ما حدث كتب الكاشف فيلمه عرق البلح قبل فيلم الأول ليه يا بنفسج بسنوات و ظل جميع من يقرأ الفيلم كسيناريو يلقي جملة واحدة كتعقيب عليه " فيلم رائع بس محدش هاينتجه" ليظل حبيس الأدراج حتي عام 1999 ليخرج للنور أخيرا دون تعديل في السيناريو وبميزانية محدودة للغاية قام اكثرها على منح من المؤسسات السينمائية في فرنسا بمشاركة من شركة افلام مصر العالمية ليعرض الفيلم في مصر لمدة اسبوع واحد لا اكثر وتستضيفه قاعات العرض في باريس لمدة 6 اشهر كاملة. *الافتتاحية ربما تمر افلام وافلام فلا نرى افتتاحية فيلم لمخرج مصري بكل هذا الكم من العبقرية والروعة والتكثيف، اراد الكاشف ان يجعلك تشعر بفرق الزمن بين الحاضر " الافتتاحية" و بين ما كان " الفيلم " عن طريق لغة الحوار فالإفتتاحية كانت بالفصحي بينما سار باقي الفيلم بالعامية الخاصة بأهل النجع عدا مشهد السيارات والتغريبة الأولي للرجال كان بعامية مختلطة بالفصحي، استخدم الكاشف اللغة كبيان على اختلاف الزمن والحضارة والموروث بين العائد و الذي أدى دوره الراحل "عبدالله محمود" والجذور، ولم تتوقف دلالة اختلاف اللغة بين الافتتاحية والأحداث عن تباين الزمن فقط بل امتدت لبيان مدى انقراض اللغة الدارجة في النجع " مكان الحدث " والعائد مما يدل على اختلاف الموروث واندثاره في عقل العائد ايضا ، ومهّد الكاشف لمقدار حجم الواقعة التي أدت إلى تحول النجع إلى ديار خاوية على عروشها إلا من زاد الخير و سر سلمى من خلال الإشارة التي ألقاها العائد حيث ان والد العائد "وهو أحد أهل النجع الذين هاجروا" كان يحكي له عن النجع في حالات السكر الشديد لا في حالات الإفاقة، بينما اشارت زاد الخير للرائحة التي ما لم تستجب لها قتلتك فلا تعلم ماهية ما يتحدثون عنه إلا بعد الإنتهاء من مشاهدة الفيلم، فتخرج في حيرة حول ماهية الرائحة هل هي رائحة الغربة أم رائحة دم أحمد الذي اخفى عجز الرجال ام رائحة دم شفا ضحية جمالها وأنياب الانتظار أم ربما هي رائحة الشمس الحارقة التي حولت القرية إلى رماد ينتظر نفخات عاتية من رياح الزمن حتي يطير في أعين كل من أدار ظهره له ، لينهي الكاشف افتتاحيته العبقرية بجمله " أكشف ظهرك دعنا نخرجها منك" و تبدء سر سلمى في ملامسة ظهر العائد في وجل وخوف أبعد ما يكون عن الشوق أو اللهفة أو حتى فضول اكتشاف الرجل. * الواقعة يقحمك الكاشف في الحدث فتجد نفسك كأهل النجع بين وخوف وقلق وانبهار بهؤلاء الغرباء القادمين بسياراتهم ودرجاتهم وهودجهم ليعرضوا على "نساء" النجع كل ما تشتيه الأنفس مقابل التنازل عن رجالهم بعض الوقت، في جمل حوارية بسيطة ومؤثرة وبصوت يمكن تصنيفه انه الغواية نفسها أداه " لطفي لبيب" بإقتدار يحسد عليه ولكن حينما أجتمع كل أهل القرية ليروا الزوار تخلف رجلان الأول الجد الذي يعلم ما ينتظر الرجال و يعلم انهم سيرحلوا دون ان يكون لديه القوة في منعهم و الثاني هو أحمد الذي وهب نفسه " للعالية" هناك يحاول أن يصل إلى اعلاها، تقنع النساء الرجال بالزغاريط فيقتنع الرجال بطبيعة الحال وتبدأ مراسم الهجرة قائمة طويلة تضم كل أسماء الرجال كأن هؤلاء الزوار هم القدر نفسه جاءوا مأمورين لجعلها "نجع الحريم".
تخطئ حين تظن أن حمدي أحمد كان صامتا طوال الفيلم ربما كان هو الممثل الوحيد الذي تحدث أكتر عن غيره في الفيلم و لكن بملامحه فقط، حينما جاءوا بأحمد من فوق العالية ليقنعوه بقكرة السفر فرد بالرفض ابتسم الجد ابتسامة ارتياح ثم عاد وجهه للقلق مرة أخرى " الجد يعلم و ينتظر". يرحل الجميع بأحلامهم وخوفهم و يبقى النساء و الأطفال وأحمد و الجد و تسير الحياة كالمعتاد في النجع فلا يختلف الأمر إلا في علامات القلق التي تزداد على وجه سيدة لم تتلقى من زوجها " قصقوصة ورق" طوال 6 اشهر ومع ذلك تدرك ان الوضع ليس بالهدوء الذي يبدو عليه فهناك نار الإحتياج تجتاح النساء واحدة تلو الأخري و تظهر مرات في نظرة عابرة او ابتسامة دلال أو ضحكة عابثة و لكنها تتجلي كل التجلي في مشهد خياطة ملابس الرجال لأحمد فكل سيدة تمسك إبرتها و تشرد في عالم أخر قطعة من رجل في يدها، لم يقصد الكاشف بالاحتياج الذي تعانيه نساء النجع الشهوة فقط بل قصد الضل و الحماية و الفرح أيضا فـ "سبس" الزمار وفرقته يرفضون دق الطبل في "نجع الحريم " حتي يعود الرجال من غربتهم ويغضب أحمد من الأمر بما بقي في عروقه من صبيانية ويعود لتسلق العالية بينما زاد الخير و رفيقاتها تخططن لإختطاف السبس وفرقته حتى تقام الأفراح في النجع، ولا يفوتك نظرة عبلة كامل لنفسها بملابس الرجل بين حسرة وفرح و تمني في لقطة لابد من التوقف امامها كثيرا.
إذا كنت تسأل عن الطريقة المثلى لتوظيف الاغنية في الحدث الدرامي، فقد جاءك الكاشف بالخبر اليقين حيث صنع نقطة تحول أساسية في الفيلم بالإغنية فقط كل ما عليك فعله هو تأمل تعبيرات الممثلين في الاغنية لتعرف ما وصلوا إليه وتنتظر القادم، فجسدت الاغنية كل ما سكتت عنه نساء النجع من خوف و حرمان ورغبة لتعلن في النهاية عن سقوط " شفا" منال عفيفي، في عذابها وانهيار مقاومتها. ومن مشهد لأخر تري استبسال أحمد في حبه لسلمى وانهيار نساء القرية واحدة تلو الاخري ولكن تقف قليلا أما مشهد " أم رماح" مديحة السيد، حينما علمت ان زوجها قد سجن للابد في بلاد الغربة لتقوم بصب الشربات على جسدها بعد شق ملابسها في مشهد مؤلم فهي هي أخرى لن يعود زوجها وولن يخطى أحمد دارها ليقرء لها ما كتبه الزوج الغائب، لتري في عيون النساء سؤال واحدا " متى تتوقف الخطابات؟"، يعلن احمد حبه على الملاء ويترك سره في بطن سلمى ويصعد إلى العاليه في مشهد ارادا الكاشف ان يكون طويلا بطئيا كانتظار النساء للبلح الأبيض الذي يعني نجاة أحمد و نجاحه و تفرح النساء فالصبي صار رجلا و لكنه لمرأة واحدة فقط ولكنه في النهاية ظل يسير في القرية، فتحاول سليمة " عبلة كامل" إغواءه فيرفض فترفض هي الأخري الجنس بعدما اعتادت على الظمأ.
تموت شفا محترقة بنارها و نار العادات ويعود ما تبقى الرجال عاجزين عن كل شىء حتي عن خلق الظل في القرية فزوج شفا