كُلنا نحب أسرنا ولكن هل أكثر من أنفسنا؟ وإذا اعتقدت ذلك فربما تكون مخطئًا. نحن نظن أننا نحب أهلنا وأولادنا أكثر من حبنا لذاتنا لدرجة أننا قد نضحي بأنفسنا من أجلهم، ولكن من الممكن أن يعمي هذا الظن عين الحقيقة.
المخرج السويدي روبين أوستلوند يناقش في فيلمه Force Majeure مسائل تتعلق بكينونة الإنسان، ويغوص في أعمق ظلمات النفس البشرية، طارحًا أسئلة حول الثقة بين الأزواج، والإيثار بين أفراد الأسرة الواحدة، والتي بدورها هي المكون الأساسي لأي مجتمع.
أسرة سويدية برجوازية مكونة من الأب توماس "جوهانس كونيكي" والأم إيبا "ليزا لوفين كونجسلي" والابن هاري "فنسنت ويترجرين" والابنة فيرا "كلارا ويترجرين" -أخوين في الحقيقة-، تقضي عدة أيام في منتجع سياحي بجبال الألب الفرنسية. في يومهم الثاني وبعد نهار أمضوه في التزلج يقابلون حادثًا عرضيًا يعكر صفو عطلتهم. فبينما يتناولون طعام الغداء في مطعم ما بين الناس وإذ فجأة يحدث انهيار ثلجي من أعلى الجبل معرضًا حياة الجميع للخطر، وبينما الجميع يتسائلون حول خطورة الوضع يطمأن الأب أسرته بعدم وجود أي خطر حقيقي، ولكن الوضع يزداد سوءً فيهرع الجميع هربًا قبل أن يداهمهم الجليد ومن ضمنهم توماس الأب الذي يترك زوجته وابنيه عرضة لهذا الخطر بمفردهم.
تمضي الساعات وكأن شيئًا لم يكن، ولكن على مائدة العشاء وبصحبة معارف للزوجين، تجلب "إيبا" الحادثة وتقص على الجميع الواقعة كما تراها، لتعلن عن استيائها من تصرف "توماس" الأناني كما تعتقد، ولكن توماس ينكر بشدة. فهو مقتنع أنه لم يترك أسرته تواجه الحادث بمفردها دون مساعدته، ويبدأن في جدال لا نهاية له حول تفاصيل الحادثة. في هذا المشهد تظهر خيبة أمل "إيبا" في زوجها، وتظهر "الأنا" الخاصة بـ"توماس" التي لا تريد أن تجرح كرامتها أمام الناس وأمام زوجته. ولكن السؤال هنا لماذا ترك "توماس" زوجته وأولاده يواجهون الخطر بمفردهم؟ هل هو أناني؟ وكيف ستستمر "إيبا" في حبها لذلك الشخص الذي تركها؟
في النهاية يتفقان على عدم إبداء استيائهما من الأمر ثانية. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة على "إيبا"، حيث أنها تجلب الأمر برمته مرة أخرى في أثناء زيارة صديقين لهما في اليوم التالي متحدثة باستياء أكبر. جل ما تريده "إيبا" هو أن يقر "توماس" بجبنه. فكيف يتركها زوجها وأبو أولادها تواجه موقفًا خطرًا كهذا بمفردها؟ كيف تثق فيه بعد ذلك؟ وفي المقابل "توماس" يلتزم الصمت، وإذا تحدث ينكر. يحدث شقاق بين الزوجين مما يدفع الأبناء للقلق. ينتهي الشقاق في اليوم التالي حينما يقر "توماس" أخيرًا بذنبه وأنه ضحية لغرائزه، حتى أنه في لحظة الندم الكبيرة تلك يعترف لها أنه خانها في يوم من الأيام، وينهال بالبكاء الشديد دون توقف في أحد أجمل مشاهد الفيلم تمثيلًا، ليدفعك لأن تشفق عليه، يسرع "هاري" ثم تلحقه "فيرا" نحو أبيهما ويحضنانه وهو يبكي، بينما تقف "إيبا" بمفردها فمازالت لا تستطيع أن تسامحه، ولكن في النهاية تستسلم لشمل الأسرة الواحدة.
في أحد مشاهد الفيلم تقوم الأسرة بممارسة التزلج في يوم عاصف، وأثناء ذلك تقع الأم في مشكلة، فيسرع الأب لمساعدتها ويعود حاملًا إياها نحو الأولاد، وكأنها تريد بطريقة ما أو بأخرى أن تعيد صورة الزوج الحامي لها ولأولادها إلى ذهنها مرة أخرى بعد أن اهتزت، حيث أنها في حقيقة الأمر لم تكن بحاجة للمساعدة. وبعد نهاية العطلة وهم على متن حافلة العودة تواجه الأسرة تحديًا أخر، فالسائق غير متمرس لا يعرف كيف يقودها على طريق خطر، تخاف "إيبا" كثيرًا وتطلب منه مرارًا وتكرارًا أن يفتح لها الباب لتخرج، وتخرج فعلًا مسرعة وبلا تردد تاركة ورائها زوجها وابنيها يواجهون الخطر بمفردهم. والسؤال هنا لماذا تركت "إيبا" "توماس" والأولاد يواجهون الخطر بمفردهم؟ هل هي الأخرى أنانية أيضًا؟ وهل ستظل الأسرة متماسكة بعد ذلك؟
أسلوب روبين الإخراجي البسيط جعل من قصته تحفة فنية غاية في الروعة، مستعينًا بالمصور فردريك وينزيل والذي اعتمد كثيرًا على الإضاءة الطبيعية، وبموسيقى أولا فلوتوم الكلاسيكية استطاع روبين أن يشعرك بالتوتر وعدم الارتياح من اللحظة الأولى في الفيلم، وأن الأمور ليست كما تبدو عليه. أعجبني كثيرًا أداء جميع الممثلين من الشخصيات الرئيسية والمساعدة وحتى الثانوية. الفيلم يصدمك بحقيقة البشر الغريزية التي هي جزء لا يتجزأ من أي إنسان، ويتحدث عن انقسام جوهري بين الزوج والزوجة ويُظهر خبايا نفسية جديدة لكل منهما لم يتعرفا عليها من قبل. اللحظة التي تشكل خطرًا تماما على حياتنا لا نفكر في من حولنا بل نفكر بغرائزنا الدفينة بأعماقنا والتي لا تمحى ولا تزول. وفي النهاية دعني أسألك مرة أخرى هل ما زلت تعتقد أنك تحب أسرتك أكثر من نفسك؟