" لا يوجد شيء اصعب او اغلى ثمنا من القدرة على الأختيار " - نابليون بونابرت
بهذه المقولة الشهيرة قدم لنا المخرج الواعد " جاكو فان دورميل " رائعته " Mr. Nobody " عام 2009 بمزيج من الخيال والفلسفة والدراما النفسية العميقة ليؤكد على اهمية هذه النوعية من الأفلام التى تصدرت المشهد تماما فى السنوات الأخيرة خصوصا مع مطلع الألفية الجديدة , " جاكو " راهن على نجاح الفيلم على المستوى النقدى وعلى الرغم من الميزانية الضئيلة لهذا العمل والتى لم تتجاوز ال50 مليون دولار أمريكى الا انه استطاع ان يقدم تجربة فريدة من نوعها على مستوى الأخراج والمؤثرات البصرية والتصوير لم تقدمها افلاما تجاوزت ميزانيتها مئات الملايين .
تدور احداث الفيلم حول شخصية الطفل " نيمو " وهو اسم لاتينى يعنى " لا أحد " مستوحى الأسم من قصة " اوديسيوس " الأغريقية القديمة وهو ملك إيثاكا الأسطوري وقد اطلق على نفسه هذه الأسم فى احدى مغامراته الشهيره مع العملاق " سيكلوب " فى هذه الأسطورة القديمة , " نيمو " هو طفل لم يتجاوز ال9 اعوام نسيت الملائكة ان تفقده القدرة على نسيان المستقبل الذى استطاع رؤيته قبل بداية الحياة فأصبح لديه القدرة على رؤية المستقبل ورؤية كافة الطرق التى ستؤدى به عن طريق اختياراته , ينشأ " نيمو " وسط اسرة مفككة تواجه خطر التفكك والطلاق وبالفعل يقرر الأبويين الأنفصال , يجد الطفل " نيمو " نفسه ما بين خيارين اما الذهاب مع والدته والحصول على حياة او الذهاب مع والده والحصول على حياة اخرى , ومن خلال هذه الحيرة يتوغل الكاتب فى فكرته الفلسفية المعقدة ليقدم لنا تصوره لتلك الحيوات المختلفة التى قد يحظى بها صاحبنا بناءا على اختياراته .
ومن خلال فلسفة الأختيار التى تناولها الفيلم قدم لنا المخرج صورة للأنسان المخير الذى يعد مزيجا من العقل والشهوة والغضب والحب و البغض , عادة ما تبنى اختياراتنا على هذا المزيج فتركنا نسلك مع الطفل " نيمو " كافة الطرق والأختيارات التى حدثت وقد تحدث بناءا على اختيار واحد .. الذهاب مع الأم ام الذهاب مع الأب ؟ , وما مدى تأثير هذه الخيارات , فهذه الخيارات ما ينتج عنها هو امرا يشبه نظريه " تأثير الفراشة " وهى نظرية فلسفية تربط الظواهر والتأثيرات المتبادلة الناتجة عن حدث أول مهما كان هذا الحدث صغير او تأثيره ضعيف ومن خلال سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات وهو ما استطاع العلماء التعبير عنه ان رفرفة جناح فراشة فى الصين قد يتسبب فى اعاصير وفياضنات وكوارث فى ابعد الأماكن فى امريكا او أوروبا او أفريقيا .
ايقاع الفيلم كان مميزا يتسم بالحركة والسرعة والمؤثرات الجيدة واضيف على ذلك البراعة فى التنقل بين العوالم والأحداث فى سهولة وسرعة تجعلك تعيش فى كل قصة وتتشوق للأخرى , ففى عالم ما نجد " نيمو " يحب " انا " ويعيش معها ومع والدته ووالدها بنفس البيت ولكنهما يفترقها بالنهاية ويقدم لنا الكاتب والمخرج تصوره عما سينتج اذا التقوا مجددا او لم يلتقوا , ثم يقدم لنا عالما اخر حيث يعيش " نيمو " مع والده المريض ويقع فى حب " ايلسا " وهى الفتاة الكئيبة التى لا تؤمن بالحب بسبب حبها الشديد لصديق المراهقة وافتراقهم فتتزوج من " نيمو " ويجاهد على مساعدتها واعادة الثقه مرة اخرى فى الحياة والحب ويحارب معها ذلك الخوف الذى يمليء قلبها وبرغم الكره الذى بداخلها ناحية الجميع الا انها لا تستطيع تخيل الحياة بدونه وتخشى دائما ان يهجرها , ومن خلال كافة الخيارات نجدها تهجره تارة وتارة اخرى تموت فيذهب الى الفضاء لينثر رمادها كما وعدها , وحياة وعالم اخر مع تلك الزوجة " جين " والتى يصاب معها بالضجر والملل ولا يستطيع تقديم حب حقيقى لها , من خلال كل هذه العوالم قدم لنا المخرج تصوره لما قبل الحياة ولما بعد الممات , تخيلاته للعالم الاخر و الفضاء والأكوان المتوازية و الأبعاد الأخرى من الكون , وان كان الفيلم حمل بعض الأفكار الألحادية التكفيرية التى قد تنكر الوجود من الأساس , الا ان تناول مضمون الفيلم يختلف من مشاهد الى اخر فالهدف بالنسبه لى كان اظهار هذه الحيرة الشديدة التى يصاب بها الأنسان عندما يطالب كافة الوقت بحقوقه والأختيار و وعندما يمتلك حق الاختيار لا يستطيع اى طريقا يسلك وفى النهاية يختم لنا المخرج " جاكو " بمقولة شهيرة من عالم الشطرنج " ان الحركة الوحيدة التى تعد قيمة هى فى الحقيقة ان لا تتحرك " ويسلك فى النهاية " نيمو " طريقا مختلفا عن والده ووالدته ومن هنا يبدء المخرج فى تقديم فكرة الفيلم ببساطة وتدريجيا تختفى حالة الأبهام واللافهم عند المشاهد فكل شيء تم تخيله فى عقل هذا الطفل الذى لم يبلغ من العمر 9 اعوام لقدرته على رؤية المستقبل .
على صعيد الأداء التمثيلى قدم " جاريد ليتو " دوره ببراعه واستحق الأشادة فقد قدم شخصيات مختلفة طوال احداث الفيلم معقدة ومركبه فى مراحل عمرية مختلفة من حياة " نيمو " كما قدم ادائا صوتيا مميزا لشخصية " نيمو " فى اواخر العمر , الأطفال فى كافة المراحل سواء الصغيرة او المراهقة قدموا ايضا اداءات استثنائية تدل على رؤية المخرج وكاستينج العمل فى اختيار الممثلين المناسبين لكل دور بعناية حتى وان كانوا مجرد اطفال , على صعيد الأداءات النسائية تفوقت " سارة " فى تقديم شخصية " اليس " وهى الفتاة المعقدة الكئيبة ونجحت ان تصل بتعبيراتها وانطباعتها ابعاد هذه الشخصية للمشاهد .
Mr nobody .. من الأفلام التى مرت مرور الكرام فى عام 2009 ولم تحظى بجماهيرية كبيرة او اشادة من النقاد ولم يتم اعطائه مقدار الضجة التى يتم اعطائها دائما لمثل هذه النوعية من الأفلام ولكنه يبقى فيلما يستحق المشاهدة ويبقى من الأفلام التى نادرا ان تخرج منها دون ان تجد شخصيه ما تشبهك .