في أوائل التسعينات كان أخي طالبا بمعهد الموسيقى العربية، وفي أحد المساءات عاد إلى البيت مدفوعا بالحماس فألقى بالعود على أقرب كرسي على غير العادة وسألنا: (انتوا إزاي مش فاتحين التليفزيون؟!) كان صوت تليفزيون الجيران يأتينا من شباك المنور محملا بغناء عذب خمنت لأول وهلة أنه غناء على الحجار، لكنه لم يكن علي الحجار كما بدا لي مجرد أن فتحت التليفزيون. الصوت صوته إلى حد كبير، ولكن الوجه الظاهر على الشاشة كان لشاب وقور أقل وسامة يضع نظارات طبية ويجلس على مقعد متحرك، تذكرت أنني رأيت ذلك الوجه من قبل. فمنذ شهور دخل أخي علينا نفس الدخلة حاملا نسخة من مجلة أخبار النجوم ظهرت فيها صورة ضبابية له وهو يعزف على العود بجوار زميل له في المعهد، هو نفس الشاب الذي يظهر الآن في التليفزيون مع نجوى إبراهيم بعد أن سرق حنجرة على الحجار، والذي عرفت من أخي أنه أقرب أصدقائه بالمعهد واسمه سيد أنور، والذي عرفه الناس فيما بعد بـ (مطرب مترو الأنفاق) لا سيما بعد أن استضافته نجوى إبراهيم. كان صوتا يستحق الإعجاب بلا شك، وإن ظل الإعجاب تشوبه المخاوف حول مستقبل ذلك الصوت الواعد حبيس المقعد المتحرك. أما سيد أنور فلم ينتظر أن يذهب إليه الناس، إنما بادر بالذهاب إليهم، أول مصري قرر أن يغني للناس في محطات المترو في حين كان زملاءه يخوضون حروبهم مع شركات إنتاج الكاسيت ومديري الكباريهات. وإن ظلت شهرة سيد أنور إلى اليوم محصورة بين عدد قليل من المهتمين بالموسيقى العربية إلا أن تجربته مع الغناء في المترو تركت أثرها الواضح على الفن والمجتمع في آن واحد، وهو ما لم يخطر في بال سيد أنور نفسه كما أظن. فمن ناحية المجتمع أذكر جيدا أن سيد أنور اختار أن يغني للناس في المترو قبل عشر سنوات من صعود مطربي الأندرجراوند على الساحة، وهوجة فناني الثورة - ويللا نلون الشوارع ونغني للشهيد والجو دا – نزول سيد أنور إلى المترو لم يكن فعلا ثوريا في نظر الناس إنما كان جنونا وحبا خالصا للفن لا يستتر خلف صورة شهيد أو قضية ما. أما من ناحية الفن فقد عرفت تجربة سيد أنور طريقها إلى الدراما، وربما يعود له بعض الفضل في خروج واحد من أجمل أفلام السينما المصرية إلى النور، فيلم هستيريا.
منذ أول مشاهدة لفيلم هستيريا أحببت هذا الفيلم جدا لدرجة تجعل الحديث عنه أمرا صعبا، في الفيلم يتحول سيد أنور إلى الشاب زين/ أحمد زكي. يتحرر من مقعده المتحرك ليمشي على قدمين، وأحيانا يجري وربما يطير، لكنه يظل حبيس ظروفه الإجتماعية القاسية. يعول أسرته بالغناء في الأفراح الشعبية، ويلتزم بدوره الشكلي في مؤخرة طابور كورال الموسيقى العربية، إلى جانب ذلك فهو يحاول أن يسعد الناس ويسعد نفسه بالغناء في المترو. قد يبدو زين عاقلا من النظرة الأولى إلا أنه يدخر جنونه للتعامل مع عنف الحياة. فوزية رضوان/ نهى العمروسي، أو الفتاة التي أحبها زين مجنونة أيضا وإن كان لا يبدو عليها. فقد تركته لتتزوج من ثلاث رجال آخرين بالتوالي بناء على رغبة أبيها، وأبوها أحد رجال الأعمال الأثرياء مجنون كذلك، إذ يضحي بسعادة بنته ويكتفي بمشاهدة حياتها الزوجية تنهار مرة بعد مرة بينما ينفق ثروته على كلابه المدللة. أما الفتاة التي أحبت زين – وداد/ عبلة كامل - فهو لم يخترها، إنما وقع اختيارها عليه منذ أن سمعته يغني في المترو. ووداد على العكس من باقي شخصيات الهستيريا لا تخجل من جنونها، إنما تفصح عنه منذ ظهورها الأول، حتى في طريقة تعبيرها عن حبها لزين، وحوارها مع دميتها القطنية (سمسم) وابنتها المستقبلية من زين، ابنة الحلم. يبدأ الفيلم بأول لقاء غرامي بين زين ووداد في محطة المترو، هو مجرورا من قفاه تقوده عساكر الشرطة إلى القسم بتهمة الغناء في المترو، ووداد تخترق الزحام لتزيد الطين بلا، وتدعي أمام الناس أن زين زوجها الذي تخلى عنها وعن ابنته (سمسم). لتبدأ واحدة من أغرب قصص الحب في السينما المصرية، أول قصة حب تبدأ تحت الأرض، هنا في مترو الأنفاق. وتستمر مطاردات وداد لزين تحت الأرض وفوقها، مرورا بتشكيلة رائعة من الحكايات الفرعية لمجانين آخرين يتحركون على هامش حياة زين ووداد. كلهم مجانين بدرجات متفاوتة، وفي عز المعمعة تظهر شخصية رمزي شقيق زين/ شريف منير، محور الهستيريا وخلاصة عصارتها. هو شاب يرتدي ثياب النساء كل ليلة ويذهب لاصطياد الرجال. ويختبيء الجنون خلف تفاصيل إنسانية بسيطة مثل مكالمات رزق وحورية الغرامية من خلال الكوز – اقتراح زين على شقيقته أن تدعي تورطها في حمل سفاح حتى توافق أمها على زواجها - زواج زينات/ سلوى عثمان من جارها عبد السميع/ حجاج عبد العظيم لمدة ثلاثة أيام من كل أسبوع بالاتفاق مع زوجة عبد السميع/ علية الجباس - اعتكاف رزق في عشة الحمام بسبب الإكتئاب، ثم زواجه من حورية في محطة الأوتوبيس، وكلها أفعال إنسانية بسيطة ارتقى بها الكاتب إلى درجة أو أخرى من درجات الجنون. حتى تحركات الشخصيات وصداماتها محكومة بمنطق الهستيريا، حتى المترو في عبوره اللا مبالي من أمام البيت القديم. حتى حركة الأيام، فوداد تنام الآن في منزلها وغدا ستترك المنزل لشقيقتها وتنام في محل العصافير، الآن تبحث عن زين في محطة المترو بينما يغني زين في محطة أخرى، وغدا سيذهب زين للبحث عنها في محل العصافير. الآن يغني زين أمامنا على المسرح، وبعد قليل سيغني للضباط في عربة الشرطة أثناء القبض عليه. وتصل الهستيريا لذروتها في علاقة زين برمزي، والتي حصدها الكاتب مرتين، مرة عندما يلتقي الشقيقان في صورة رجل وامرأة، ومرة أخرى عندما يلتقي الشقيقان في صورة قاتل ومقتول. يكاد الكاتب يصرخ في وجوهنا: (إن الجنون يظهر أينما حفرت بحثا عنه)*. حتى عبارات السباب التي يتبادلها الممثلين أحيانا (انت يا مجنون يا ابن المجنونة) لم يحددها الكاتب من قبيل الصدفة، وعلى صعيد آخر يأتي جنون زين، جنون المقاومة. (شوية جنان عشان نعرف نعيش) قد يكون ذلك هو السبب الرئيسي لوقوعي في غرام هذا الفيلم الذي بدا لي كدعوة للجنون، ممهورة بتوقيع صانعيه، ومشفوعة بنفحات أم كلثوم وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وسيد درويش وعبد المطلب وفيروز ومحمد فوزي الذي استلهم الفيلم روحه في علقة الفرح. كما بدا لي أن زين يستند على تركة عظيمة من الأغاني تتغير وظيفتها في كل مشهد، وفي كل مرة تصنع مفارقة جديدة. هكذا تتحول أغنية عاطفية لأم كلثوم إلى تعليق ساخر على الجماعات المتطرفة التي تطارد زين فيغني (أهرب من قلبي أروح على فين؟!) وتتحول أغنية أخرى لعبد المطلب إلى وصلة تقريع يوجهها زين إلى عريس متصابي (ودع هواك وإنساه وإنساني.. عمر اللي فات ماهيرجع تاني). والأروع أن تتعدد روافد الموسيقى داخل الفيلم عملا بمنطق الهستيريا. أغنيات المترو من ناحية، وكورال الموسيقى العربية من ناحية أخرى، مرورا بعادل الفار، وأيمن صفر مطرب حفلات أكتوبر، وحتى صوت عبد الوهاب في الراديو. وعلى مستوى آخر تأتى موسيقى هشام نزيه في مواجهة كل هذا الصخب لتعبر عن العالم الداخلي لشخصيات الهستيريا برقة متناهية، وبين هذا المستوى وذاك تأتي أغنيات وجيه عزيز ومحمد ناصر علي لتعبر عن زين نفسه. كذلك يبدو الفصام واضحا على مستوى البناء البصري فوق وتحت الأرض. بالإضافة لذلك فإن انتزاع أيقونات مألوفة مثل سليم سحاب وعادل الفار وطارق فؤاد من سياقها الواقعي وزرعها في الفيلم أضفى على الهستيريا مسحة واقعية. وجوه مألوفة في عالم أكثر غرابة. عالم يحتم علينا الجنون كما يخبرنا زين، وكما أخبرنا فريدريك نيتشه من قبل (إن عبثية شيء ما ليست أبدا حجة ضد وجوده، بل هي شرط وجوده!) زين مجنون، ورمزي أيضا، الأول يسمو بجنونه فوق الواقع، والثاني يستسلم لجنون الواقع. جنون زين يختلف عن جنون رمزي إذن, جنون زين يحول التراب لذهب، وجنون رمزي يحول الواقع لكابوس.
ولأن الفيلم يعتمد على الشخصيات في المقام الأول فهو يعتمد كذلك على كوكبة متميزة من الممثلين من مختلف الأجيال. علاء مرسي وألفت إمام خلدوا قصة حبهم في مشاهد معدودة، لأول مرة يجد الإثنان المساحة المناسبة، ولأول مرة يتزوج العاشق القصير من أميرته الطويلة في فيلم عربي هستيري النزعة. بالتوازي مع ثنائية حب أخرى بين سيد الماكيير/ العظيم عبد الله فرغلي، وعزيزة/ نجوى فؤاد. هي قصة حب من جيل مختلف تبعث من جديد على صوت عبد الوهاب. وكيف ننسى العجوز الجميل محمد يوسف يقضي شيخوخته في محبة العصافير، ويتصارع كلا من شريف منير وعبلة كامل على أداء أكثر شخصيات الهستيريا سحرا بتناقضاتها وأبعادها النفسية المركبة، بينما تقع المهمة الأصعب على عاتق أحمد زكي. مهمة أداء الشخصية البسيطة التي لا توفر للممثل مساحة كبيرة للتعبير. ولا أجد كلاما يعبر عن ممثل انتهز فرصة إصابته بالإلتهاب الرئوي ليجمع فريق التصوير الساعة الثانية بعد منتصف الليل كي يستغل صوته المشروخ في تصوير مشهد علقة الفرح، والعهدة على مخرج الفيلم. جنون أحمد زكي يحول التراب لذهب، ويحول المرض لوسيلة تعبير كذلك. ولا تخلو النهاية من بارقة أمل. فزين ووداد مهما فرقتهما الأيام ما زال يجمعهما خط مترو واحد. وزين يكتسب قاعدة أكبر من الجمهور ويخرج من المترو ليغني لأول مرة فوق الأرض. بالمناسبة: شاهدت فيلم هستيريا حوالي خمسين مرة، وفي إحدى المرات ذهبت لنادي الفيديو وقلت لصاحبه (عاوزك تعمل لي نسخة من الشريط دا) قال (هستيريا بتاعك يا أحمد وأصلا ماحدش بيأجره.. خليه عندك ولو حد سأل عليه هابقى أصفّرلك) وقد كان!
أحمد نبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * إن المحار يظهر أينما حفرت بحثا عنه/ باتريك زوسكيند (بتصرف).