يُنظر للعبقري دائماً في البداية علي أنه شخص مجنون أو أبله، لأنه دائماً ما يفكر خارج الصندوق، الجميع يشك في قدرته العقلية وقدراته الإبداعية أيضاً، وكذلك شك الجميع في قدرات العبقري آلان تورينغ، في الفيلم التاريخي لعبة المحاكاة/التقليد/الزيف The Imitation Game للمخرج Morten Tyldum والسينارست Graham Moore والمأخوذ عن كتاب "Alan Turing: The Enigma" للكاتب Andrew Hodges؛ والحائز علي جائزة الأوسكار 2015 كأفضل سيناريو مقتبس من نص أدبي، وتدور أحداثه حول قصة حقيقية لعالم الرياضيات الإنجليزي آلان تورينغ الذي استعانت به المخابرات الإنجليزية في محاولة لفك شفرة الإنيجما الألمانية في الحرب العالمية الثانية، قبل أن تحاكمه بريطانيا بسبب ميوله الجنسية.
• الإيمان وجريمة الاختلاف!
"إنهم يضربونني لأنني أذكي منهم... كلا ولكنهم يضربونك لأنك مختلف" كان هذا الحوار بين آلان تورينغ وصديقه كرستوفر وهما طلاب بالمدرسة، فكان يظن آلان بأن زملائه في المدرسة يضربونه لأنه الأذكي، ولكنه لم يكن يعلم بأنهم يمارسون العنف ضد أي مختلف، فعندما كانوا يضربونه كانوا ينعتونه باليهودي!، وكذلك لم يتقبل زملائه في المخابرات طريقته في محاولة حل الشفرة، هم يريدون الطريقة التقليدية التي يعرفوها عن الاحتمالات، ولكنه كان يدرك مسبقاً أن العقل البشري لا يمكن أن يعمل علي هذا الكم الرهيب من الاحتمالات، فكانت فكرته الرئيسية كما يقول المثل الشائع "لا يفل الحديد إلا الحديد"، هو يريد أن يصنع جهاز ليواجه جهاز، لتكون محاولته في صنع هذا الجهاز هي النواة لصناعة الكمبيوتر.
هل الكمبيوتر يفكر؟ "هل الآلات تفكر كالإنسان؟.. بالطبع لا، ولكنها تفكر بطريقة مختلفة، ولكن هل معني أنها تفكر بطريقة مختلفة أنها لا تفكر!" هذا السؤال كان غريباً في الأربعينيات، فلم يستوعب أحد أن بمقدور آلان تورينغ صناعة جهاز يفكر، فالبشر أنفسهم مختلفون وكل إنسان يفكر بطريقة مختلفة عن الآخر، مما ينتج تنوع في الاحتياجات، فمن الطبيعي أن يختلف الكمبيوتر أيضاً، لأنه يعمل بطريقة مختلفة أصلاً.
وكذلك عاقبته السلطات الإنجليزية انطلاقاً من رؤي دينية لأنه مثلي التوجه الجنسي، وخُيّر بين الحبس لمدة عامين أو الإخصاء الكيميائي، ليختار الإخصاء الكيميائي عن الحبس، حتي يتسني له إنجاز مشروعه العبقري، لينتحر بعدها بعامٍ واحد، تاركاً صرخة في وجه العالم الذي يحاكم المختلف في التوجه الجنسي، وكذلك تاركاً محاولة عظيمة لصناعة الكمبيوتر.
"إن الأمر أحياناً يتعلق بالأشخاص الذين لا أحد يتخيلهم، هم من يفعلون الأشياء التي لا يمكن لأحد تصورها" المجتمع الإنجليزي –آنذاك- لم يكن ليتقبل فكرة عمل المرأة في كل الوظائف كما هو الأمر الآن، فكان والدا جوان لا يردوا منها أن تختلط بالرجال في العمل –رغم عبقريتها الفذة- إلا أنها امرأة!، ولولا قيام آلان بمساعدتها لم تكن لتنجح، إلا أن إيمانها بقدرتها جعلها تنجح وتستمر في العمل واقتناص حقها في الحياة كما تريد هي، وليس كما يريد المجتمع.
• الوعي والقيادة
البشر لا تحب الاختلاف ولا تتقبل المختلفون، لذا كانت نصيحة جوان بأن زملائه لن يساعدوه إلا إذا تقبلوه وأحبوه، غير ذلك فلن يساعده أحد، وسيتركونه يعمل وحيداً.
"أتظن نفسك الإله، تحيي من تشاء وتميت من تشاء؟... نعم أنا أفعل" كان هذا المشهد بعدما استطاعوا فك شفرة الإنيجما وتعامل آلان تورنغ مع الأمر، هو الجانب الأهم في الفيلم، فقد استطاعوا تحديد هدف القوات النازية الجديد وهي قافلة بحرية وبها مدنيين سيموتون، حاول زملائه إخبار القيادة، ولكن آلان تورنغ اعترض ومنعهم من هذا، فكان يخشي أن يدرك الألمان بأن انجلترا استطاعت حل الشفرة ومن ثم تغييرها ويضيع مجهود عامين في صناعة الجهاز وقدرته علي حل الشفرة، فهنا يتضح الفارق بين القائد والإنسان العاطفي، فالقيادة دائماً ما تحسب الأمر بشكل عام من منظور أعم وأشمل بما يحقق أكبر فائدة وأقل خسائر ممكنة، فالقيادة تريد أن تكسب الحرب وتنهيها، وبنهايتها سننقذ الآف بل ملايين الأشخاص الذين كانوا سيموتون لو أنقذنا 500 واستمرت الحرب، لذا كان قرار آلان تورينغ بأنه سيتركوا ألمانيا تنفذ ضربتها، حتي يستطيعوا صناعة طريقة أخري بالتعاون مع قائد المخابرات الإنجليزية بشكل مباشر، عن طريق تسريب المعلومات من خلاله إلي الجيش، وكأن الأمر عن طريق جواسيس من الألمان أو اختلاق قصص ليبعدوا عن ذهن الألمان بأنهم استطاعوا حل الشفرة.
ونظراً لمجهودات آلان تورينغ فقد قلص مدة الحرب العالمية حوالي سنتين علي الأقل.
• الصدفة والسينما الصدفة كثيراً ما تضر العمل السينمائي الجيد، وتعتبر أضعف مشاهد العمل من حيث بنائه السينمائي هي تلك الصدفة التي قادت آلان تورنغ ليكتشف أن الشفرات الألمانية بها بعض الكلمات المكررة مما يقلل عدد الاحتمالات التي يعمل عليها جهازه في حل شفرة الإنيجما.
وأخيراً لقد أبدع المخرج مورتن تليدوم في صناعة عمل فني عظيم لم ينقصه شيء من التكنيك السينمائي واستطاع قيادة فريقه ببراعه، وكذلك تفوق بنديكت كامبرتش في رسم هذه الشخصية الجادة والمختلفة تماماً في رد فعلها عن الجميع دون أن ينفلت منه خيط الشخصية مطلقاً، والأداء العظيم لماثيو جود بهذا الأداء الطاووسي المعجب بنفسه والواثق من قدراته، وكيرا نتالي في أدائها السلس جداً، وعلي الموسيقي الكلاسيكية الرائعة للموسيقي ألكساندر ديسبلات، والأزياء والديكور الذي أعاد أجواء الأربعينيات ببراعة.
حامد المسلمي ناقد فني وباحث أكاديمي