نيركوك.. صغير السودان الذي مازال يعاني

فجأة يظهر أمام سيارتك طفل صغير في هيئة رثة، يجري مذعورًا بطول الشارع، لا يميز الخطر، لا يأبه لأبواق السيارات التي تتفاداه.. تكاد أنت أيضا أن تصدمه بسيارتك؛ فتزعق بسخط من نجى لتوه من الوقوع في جناية يمكنها تدمير حياته: "شحاذ مغفل".. تتركه في طريقه وتنصرف لحال سبيلك دون أن تعرف كيف بدأت القصة. بدا الصغير ماهرًا.. نيركوك، ونيركوك ليس اسمًا، ذلك فقط لفظ يعني الصغير بلهجة أو لغة محلية في جبال النوبة، أما الاسم فلا ينكشف من البداية، هو مجرد صغير في مكان ما على الأرض، في كنف أبيه يجلس مطمئنًا، يتعلم، يكتب على اللوح الخشبي التقليدي كأنه في القرن الماضي، وأبوه إلى جواره يقرأ ما كُتب فوق لوح آخر.. حياة هادئة.. العصافير تزقزق بينما قلم البوص ينغمس في حاوية الحبر العتيقة قبل أن يُسمع فجأة صوت مباغت.. ينظر الأب للسماء وينظر الابن إلى الأب، السماء التي تحمل الهدوء والسكينة واليقين تتحول أمام الرجل إلى ساحة قتال، والأب الذي هو بدوره أمان الصغير.. نيركوك.. يصبح فجأة مذعورًا؛ فكل شيء يتحول، يحاول الأب تأمين ابنه فيهرول به إلى مخبأ بدائي ويتركه للظلام المطبق فنسمع نداءً أخيرًا: "أبوي"، لكن النداء لا يُجاب. نيركوك.. الفيلم السوداني الذي أنتج في 2016 وأخرجه وصوره ومنتجه الواعد محمد كردفاني يتتبع الصغير آدم حيث يظهر بعد سنتين في مكان ما يجرب يديه الماهرتين، لكن هذه المرة ليس في الكتابة بالحبر بل في فتح خزانة.. الكاميرا ليست مستقرة كما كانت عندما كان جالسًا إلى جوار أبيه في قريته يتعلم الكتابة.. الآن الكاميرا مهتزة، والصورة ضحلة الوضوح، مساحات الظلمة داخل الكادر لها السيادة، والإضاءة الزرقاء بغموضها حاكمة، وفي الخلفية صوت غطيط خفيف، يبدو أن رجلًا مجهدًا ينام هنا، الصغير أيضًا مجهد من قفل الخزانة المحكم.. تسقط آلة من يده فيستيقظ النائم الذي يبادر بفتح النور فتتغير ألوان الكادر وتتوارى الظلمة قليلًا، يخرج الرجل مسدسه، لكن الصغير يكون قد فر عبر النافذة. نيركوك، الصغير السوداني صيرته الحرب لصًا محترفًا، يساكن أطفالًا آخرين كما لو كانوا جميعًا نتاج الحرب أو صراعات أخرى انتهت بهم إلى رعاية مازدا الشاب متوسط العمر الذي يستغل براءتهم كلًا حسب إمكانياته، فهو معلم ومربٍ، لكنه ليس فاضلًا كما يوصف المعلمون، إنه يعلمهم السرقة وتطفيش الأقفال، والتسلل عبر الأبواب المغلقة والنوافذ المواربة، والخائب منهم الذي لا يتمكن من إجادة أي من تلك الفنون يدفعه إلى التسول.. مؤسسة رعاية كاملة تأخذ بأيدي اليتامى من الشارع القاسي رأسًا إلى جهنم. صوت أذان الفجر وصعود نوره ذي اللون السماوي رويدًا على الشوارع التي ذكرتني – عن نفسي- بمدن الصعيد القصية ينهي مغامرة الأمس الفاشلة في عالم الجريمة، ومع انفراج طاقة النهار تأتي الصغيرة آمنة التي تنصحه بالعدول عن طريقه، في حوار بسيط وربما تقليدي.. سمعناه ربما في أفلام قديمة، لكنه يفي بالغرض، يجعل الصغير يعيد حساباته ويفكر جديًا في اللجوء إلى الحلال: "جنيه على جنيه يصيرون جنيهين". سكة الحلال طويلة لكنها تبقى نظيفة.. تبقى حلالًا، لكن مازدا شيطان الفيلم يأبى إلا أن يحتفظ بتلميذه النجيب، لا أحد مثل آدم من الأطفال الآخرين الكسالى.. يقنعه بالتهديد وبحبس ملاكه الصغير (آمنة) في غرفة ذات باب حديدي محكم الغلق، بالمنطق أيضًا.. نعم بالمنطق.. منطق إبليس.. يحاول إقناعه أن الله جعل الحرب تشرده وتقضي على أبيه وتطرده من بلده حتى جاء حافـيًا فتلقاه مازدا وعلمه صنعة المجازفة بالسطو على البيوت وفتح الخزائن. يقول له: "سنواتٍ وأنا أسأل الناس فيدفعونني ويقولون لي الله يعطيك، الله ما أعطاني، حقي أنا أخذته بيدي". الصغير لا يقتنع، لكن لا مهرب آخر أمامه، يعود مع شيطانه لسرقة نفس البيت الذي أموه بالأمس، كادا ينجحان إلا أن صاحب البيت يعود فجأة ويقتتل هو ومازدا.. أما آدم فيحسم الأمر.. يمسك المسدس الذي عرف مكانه بالأمس، يصوبه نحو الرجلين الملتحمين ويطلق النار، ولا يتركنا المخرج نعرف أبدًا على من أطلق النار، ومن أصاب منهما، هل حاول إنقاذ قرينه فصوب نحو صاحب البيت؟ أم أنقذ نفسه بالتخلص من مازدا؟ في الحالتين هرب، فالقتل لم ينه قضية قط، ولن يحسم صراعًا أبدًا.. هرول في الشارع على غير هدى، لا يعرف إلى أين يذهب.. لكن قائد سيارة ما يتفادى الاصطدام به، ليس رحمة به ولا عطفًا عليه، لكن خوفًا على نفسه من العواقب، يفتح زجاج سيارته قليلًا ويزعق: "شحاذ مغفل"، وينصرف إلى حال سبيله. نيركوك.. واحد من الأفلام السودانية التي تستحق المشاهدة، رغم أنه من التجارب المبكرة لصانعه، ورغم أنه نُفذ في وقت كانت السينما السودانية تتعافى من رقودها في غيبوبة طويلة، إلا أنه قدم لغة سينمائية بليغة، ربما تقليدية وبسيطة لكنها محكمة وتنبئ عن مواهب لم تلبث أن أثبتت نفسها، ويومًا بعد يوم نرى تقدمها الثابت بخطوات قوية.