الرمزيه هي أساس الفيلم. هذا الفيلم الغنائي المأساوي الذي يناقش قضايا بداية الخليقة واستمرارية المستقبل يعتمد على مرآة تعكس الحقيقة على شاشة بيضاء تضاء في الظلمة. هذه الشاشة التي يعتاد الجمهور من كل الطبقات والأجناس على ارتيادها ترسل الصور المرادة بطريقة غير مباشرة، فهذا الكلام معلوم، لكن يوسف شاهين استغل هذه الفرصة بإرسال أكبر عدد ممكن من الأفكار التي تحث على التغيير النمطي متبلورة في "فيلم عودة الإبن الضال". الفيلم ذو المائة وعشرين دقيقة، قد أنتج عام "1976"، وألف من قبل شاعر الثورة أو فيلسوف الفقراء صلاح جاهين، ومن إخراج الأستاذ - يوسف شاهين، ممثلًا من قبل العظيم شكري سرحان ومع أنتوني كوين الشرق محمود المليجي وبالاشتراك مع سهير المرشدي، وبطولة مراهقان قد شكل الفيلم نقطة البداية لمسيرتهم الفنية؛ الممثل القدير هشام سليم وملاك الطرب العربي ماجدة الرومي. فهو يسرد قصة عائلة المدبولي في ريف مصر، تحديدًا في قرية ميت شبورة، التي لها أملاك ونفوذ كمعصرة زيت وقطيع من الماشية، وبالطبع لهم من العمال وفرة. فهذه العائلة مكونة من الجد محمد، وزوجته رتيبة، وإبنين طلبة وعلي، وحفيد من طلبة اسمه إبراهيم ، وأخت زوجة طلبة المتوفاة فاطمة. ومن يدير شؤون البيت، الإبن البكر طلبة بعد غياب أخيه لمدة 12 سنة، فهنا تنتظر العائلة وعمالها الإبن علي لكي يعود ويصلح الوضع والإضطرابات التي تحويها، كإبراهيم الحفيد الحلم في السفر بعيدًا لدراسة علم الفلك. أو أبو تفيدة حسونة الجزائري، العامل الذي يريد تعويضاته بعد السنين الذي عملها، والأهم فاطمة التي تنتظره سنة وراء سنة للزواج منه وأيضًا لتستردّ أموالها وحصتها من الشركة أو الأملاك. وأخيرًأ بعد انتظار، يأتي علي وهو منهك وبعد سجنه ظلمًا، يعيد الفرحة لأبناء القرية بعد الحفل المقام له. حينها تتطور الأحداث، لينتهي الفيلم بمأساة وأمل في آنِ واحد كما وصفه يوسف شاهين، باقتناع إبراهيم، ومقتل عدة شخصيات وانتصار آخرين. وقد قالت الفنانة ماجدة الرومي في إحدى حفلاتها عن المخرج يوسف شاهين وهدفه تجاه الفيلم واصفته بأنه "الحلم الكبير في السينما"، فهذا الحلم كان يعاكس أفكار جاهين السياسية، فقد كان للإخراج رؤية إجتماعية بحتة. فإن شاهين يحلم بالتحذير أو التوقع من "التغييرات السريعة من غير تحضير... هتخلي العيلة العربية تخبط في بعضيْها"، وأبرزها الغيرة التي تفرق الإخوة والعائلة عن بعضها التي ظهرت واضحة وصريحة في الفيلم. ولكن المؤلف جاهين لم يجعل الفيلم يناقش الأسرة والعائلة فقط بل سياسي. فإن النكسة، زوال الاشتراكية الناصرية، دخول الانفتاحية الساداتية، التأقلم، كلها أفكار قد تناوبت في ذهن صلاح جاهين. فهذا ما قد شكل الفيلم وقضاياه السياسية الناقدة والرمزية، وما هو معلوم ومتداول أن الحبكة بشكلٍ عام تعتمد على شخص واحد عليه أن يتعامل مع كل المشاكل من دون أي معاونة، علي، متمثلًا في أرض الواقع بشخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ومحاولته في خوض حرب 1967 لوحده للانتصار. ومُثل أيضًا التغيير الفكري إلى الساداتي باستخدام الأمل في شخصية إبراهيم بقرار الفرار من القرية، وهذا ما حصل تمامًا مع الرئيس أنور السادات في الحكم واستطاع استرجاع ما سلب بعد النكسة بالانتصارات. لكن من وجهة نظري البعيدة كليًا عن ما قيل سابقًا، قد أراد جاهين إيصال فكرة التحول الفكر الملكي إلى الناصري إلى الساداتي و المستقبلي متمثلتًا بشخصيات أخرى تمًامًا. وعلى سبيل المثال، مثّل طلبة الرئيس جمال عبدالناصر في عدة مشاهد، ومن أهمها وهو جالس على طاولة الغداء وأعطى رأيه بمفهوم عائلته بالشركة رادًا على سؤال "هي فلوس مين؟"، بسخرية "هي لمصلحة مين!" وهنا تمامًا كما حصل مع الرئيس عندما استلم الحكم وأمم ممتلكات ونفوذ الأغنياء مما قد تم بناء مصر في الوقت آنذاك على حساب الأغنياء للشعب بأكمله. أيضًا، قد أكّد لي بضع مشاهد أن طلبة كان الرئيس الدكتاتوري بطريقة التمثيل والتأثيرات التي وضعت على الفيلم كالأبيض والأسود والمصافحة وتقبيل يده من قبل الفلاحين وقت شراء ماكينة جديدة تساعد في عمالة قرية ميت شبوره، وهذا ما حصل وفي نفس المشهد الذي صوّر عام ( 1954) في مدينة المنصورة عندما وزع الرئيس فدادين من الأراضي للفلاحين والمزارعين مع ذات التأثيرات التي لاحظناها. وهنا أتى الابن الضال علي الذي كان مثابة الرئيس أنور السادات واتكل عليه الناس أجمع بعد الدمار الذي حصل بغيابه والهزائم، وربما قد شُدد على عدد السنوات التي قضاها علي في العزلة متمثلتًا في سنوات حكم الرئيس جمال عبدالناصر الفعليّة، اثنى عشر سنة من (1954-1967) فقط. فهذا ما كان بين الأبناء، لكن الجد محمد مدبولي الكبير مثل الرئيس محمد نجيب الذي لم يستلم الحكم سوى سنتان ولم يفلح في الحكم متمثلًا في فكرة زراعته للصحراء القاحلة، ويرمز إبن الإبن إبراهيم جيل الشباب والأمل والرئيس المستقبلي. حينها تصبح أراضي وأملاك عائلة المدبولي الجمهورية المصرية. لكن شعب مصر هو شعب الأغاني والرقصات في الفيلم الذي يعبر عن رأيه بما يحصل. وهنا توجهت الفكرة لإضافة شخصيات مشهدية وعاكسة أو معارضة. فقد اعتمد صلاح جاهين كمؤلف ويوسف شاهين كمخرج على وضع أشخاص تعكس الظلم الذي حصل بسبب الشخصيات الرئيسة. فكانت تفيدة هي الصواب والصراط الذي كان عليه إبراهيم اللحاق به، وأباها حسونة الجزائري المظلوم والذي لا يريد إلا حقه قد عكس الحكم الدكتاتوري من قبل طلبة "الظالم". وأيضًا ما أكد لنا أن طلبة كان ظالمًا ودكتاتوريًا في حادثة إغتصاب فاطمة والتي مثلت الأغنياء وأصحاب النفوذ في مصر الذي تم الإعتداء عليهم وعلى ما يخصهم. بينما من ناحية أخرى ظهر الجندي، زميل طلبة لكي يذكر بمآسي الحروب وتواريخ الهزائم بحق الجيش ومصر وإظهار فكرة الماضي المرير الذي عاشه الشعب. وكما ذكرت سابقًا إن "عودة الابن الضال" فيلم غنائي، ليكوّن وسيلة للتعبير والتوعية والتحذير على الفكرة المرادة. ومن أهم تلك الأغاني أغنية مفترق طرق) التي غنتها مطربة المثقفين ماجدة الرومي، والتي تخاطبنا نحن كجمهور عن فكرة عدم التمسك بالماضي ونسيانه بالحلو والمر أو أفراحه وأحزانه، بقولها:" اللي راح راح ومش فاضل كتير"، ثم بصيص الأمل قائلة "مهما فاضل وقت". وأيضًا تم ذكر الحلم والوعد في أغنية (الشارع لمين؟) و باللوم قائلة: "كان وعد منك والحلم منا... كان منك وعدك تجيب وش السعد وتقيم الذل من أصحابك"، وهنا نتأمل في كلمات صلاح جاهين إمّا في معانيها أو حتى موضعها، وهنا لا نجد أنها صدفة بل وضعت قصدًا لغرض ارسال رأي الشعب بما حصل. وقد ذكرت قضية المرأة أيضًا، إما بالتعليم أو الحوارات. كذكر قرار الحكومة الساداتية آنذاك في إنشاء المدارس المختلطة بين الإناث والذكور والتأكيد على هذه الفكرة عدة مرات. أو (الهزار) والسخرية التي ظهرت لكي تبين حال العادات والتقاليد في مجتمعنا العربي والريفي في الحصول على شهادة بناءً على الجنس، كقول الجد محمد مدبولي:"لازم يحمل شهادة أعلى من الحيتجوزها عشان يضربها". فإن الفيلم كما قلت سابقًا هي الوسيلة المستغلة التي قد استخدمها يوسف شاهين لإرسال القضايا المهمة التي يبحث عنها العالم. وأخيرًا، كلمتا ربما وقد هما المفتاح لكتابتي لأي تحليل أو اعتقاد، وهذا باعتقادي ما أرادا يوسف شاهين وصلاح جاهين إرساله، وربما أيضُا لم يكن أية من توقعاتي على صواب، بل كالعادة حماس مشاهد سينما الزمن الجميل فقط. لكن التفكير لا حدود له لكي نتوقف عن إعطاء الأدلة والبراهين. فهنا أستطيع القول: "أن الفيلم يخلد أسماء الممثلين وطاقم العمل والسينما العربية أجمعها. من دون أي أدنى شك."