خــواطــر سينمائيــة سينما الحقيقة‏.....‏ المزيفة

  • مقال
  • 03:04 مساءً - 27 مايو 2010
  • 1 صورة



نانسى عبدالفتاح مدير تصوير فيلم جيران فى كواليس الفيلم

ذات يوم كنت أحضر فيلما تسجيليا‏,‏ كانت قدمت فيه شخصية نسائية تدعي أنها الابنة غير الشرعية للفنان الراحل نجيب الريحاني‏.‏
ظلت تلك الشخصية تتحدث طوال الفيلم عن ذكريات والدتها مع الفنان الراحل نجيب الريحاني‏وكيف كان يأتي لزيارتهم في أوروبا وغيرها من التفاصيل‏.‏
كنت أشاهد الفيلم في مكان به عامل لصيانته و حراسته للمقر جذبه الفيلم فأخذ يشاهده معنا للنهاية‏,‏ ثم جاء وقت النقاش و أخذت الآراء تتصارع و الأصوات تعلو‏,‏ فانسحبت في هدوء ليلقاني العامل‏,‏ في الخارج و يقول لي في حكمة البسطاء‏'‏ أكيد يا أستاذ دي مش بنته‏'‏ فنظرت له بدهشة فاستطرد ردا علي نظراتي تلك قائلا‏(‏ اللي يخلي واحدة ست زي دي تدفع فلوس و تعمل فيلم تقول فيه أنها بنت نجيب الريحانيأكيد لأنها مقدرتش تثبت قدام المحكمة أنه أبوها‏'‏ خرجت ضاحكا علي بساطة وسذاجة هذا العامل البسيط الذي تصور أن السيدة في الفيلم هي من صنع هذا الفيلم لتدعي ما ليس فيها و ربما لتطالب بما لا يحق لها‏.
‏ و لكني أثناء عودتي للمنزل تذكرت كلمات هذا الشخص البسيط و وجدت فيها تلخيص وافيا شافيا لتقييم تلك النوعية من السينما التسجيلية التي تدعي أنها تنقل الحقيقة أو تقدم الواقع ولكنها في حقيقة الأمر تقدم حقيقة مزيفة وواقعا منقوصا‏.‏
فقد ظن هذا الشخص البسيط أن الفيلم الذي رآه هو فيلم مدفوع الثمن قامت السيدة التي تظهر فيه بإنتاجه لتروج لوجهة نظرها و ليس فيلما من صنع مخرج الفيلم‏....‏ لماذا ؟ لأنه لم يري في الفيلم سوي وجهة نظر السيدة المدعية عبر سردها لقصة بنوتها لنجيب الريحاني وقد ترك المخرج و جهة نظرها تسود و تسيطر ولم يقم بدوره بأي محاولة للبحث و التحقيق في الوقائع التاريخية التي تذكرها و التحقق منها أو القيام بعرض كافة وجهات النظر المؤيدة و المعارضة‏...‏ فجاء الفيلم و كأن السيدة هي من صنعت الفيلم و ليس المخرج‏.‏
بالطبع هذا ليس متعمدا‏,‏ و لكن النواقص التي صاحبت صناعة الفيلم و منهج بحثه للقضية المطروحة أدي إلي تلك النتيجة‏,‏ التي لخصها هذا العامل البسيط في تصوره أن الفيلم صنعته السيدة بنقودها‏(‏ أو بنفسها‏)‏ وليس المخرج‏.‏
هذا العيب القاتل والخطير الذي يسيطر علي السينما التسجيلية المصرية هو ما يجعلها سينما قاصرة وغير معبرة عن الواقع‏,‏ بل قد تكون مزيفة له‏.‏ شعرت بنفس القصور عند مشاهدتي لفيلم المخرجة اللامعة تهاني راشد الأخير‏'‏ جيران‏',‏ وهي صاحبة فيلم‏'‏ البنات دول‏'‏ والذي عرض في مهرجان كان السينمائي و قد كانت لي عليه نفس الملاحظات‏.
‏ ففي فيلمها السابق‏'‏ البنات دول‏'‏ قدمت المخرجة نموذج لأطفال الشوارع‏(‏ من البنات‏),‏ أو بالأحري تعرضت للبنات اللاتي يقطن الشوارع في مصر‏(‏ حتي لو كن في سن المراهقة‏),‏ وبالرغم من جراءة الموضوع وبغض النظر علي الصيحات الأخلاقية التي صاحبت ظهور الفيلم وعرضه في مهرجان كان السينمائي‏,‏ من فريق‏(‏ سمعة مصر‏)‏ صاحب السيمفونية المعروفة التي نسمعها كل مرة مع كل من يحاول إظهار الواقع الخفي لمصر في الفترة الحالية‏,‏ ونتائج الاضطراب الاجتماعي الحادث فيه إلا أني كانت لدي نظرة نقدية لتلك النوعية من السينما التسجيلية‏.‏
فتهاني راشد تذهب للواقع المراد تصويره مصطحبة كاميرا التصوير‏,‏ منظمة لقاءات‏(‏ معظمها تقريبا‏)‏ مع من يقطنون الحيز الجغرافي الذي تصور فيه‏(‏ المكان‏)‏ وتترك لهم حرية أن يتحدثوا عن نفسهم وحياتهم دون أدني تدخل منها‏,‏ ظنا منها أنها بذلك تقدم الحقيقة بشكل محايد دون أي تدخل يوجه الأحداث في اتجاه وجهة نظرها‏.‏
المشكلة أن البنات اللاتي ظهرن في الفيلم جئن بصورة سلبية‏,‏ مجسدين الفكر المسبق لدي المتفرج الذي يري أن ما وصلن إليه هو نتيجة لأخطائن التي ارتكبن‏,‏ بل أن هناك البعض ظن أن ما يشاهدونه من ويلات هو عقاب إلهي عما اقترفن من ذنوب الحمل سفاحا ـ المخدرات‏...‏ الخ‏).
‏ ولماذا يتولد هذا الإحساس لدي المشاهد‏,‏ لأن السيدة تهاني لم تهتم بالموضوع كظاهرة بل اهتمت بمظاهر تلك الظاهرة المتمثلة في البنات اللاتي قامت بتصويرهن‏.
‏ فهي لم تقم بأي بحث خارج عين الكاميرا عن وضع الأسر التي تهرب بناتها للشارع‏,‏ و هل يكفي الفقر فقط لهروب الأبناء؟ بل أن اختيارها للبنات فقط كعنصر من تلك الظاهرة‏(‏ بالرغم من أن الفيلم يشير إلي أن الجنسين يقطنان الشارع‏)‏ بدا و كأن الاختيار من البداية كان لإدانة بنات الشوارع‏(‏ وهذا بالطبع ما لا تقصده‏).‏ التصور بأن ترك الكاميرا تلتقط ما يحدث أمامها دون تدخل يذكر‏,‏ أو ترك أصحاب الواقع الاجتماعي المراد دراسته يتكلمون أمام الكاميرا دون توجيهم هو نقل الواقع بحيادية‏(‏ و هو أسلوب مشابه لتيار السينما المباشرة التي كان عميدها التسجيلي الفرنسي الشهير جان روش‏)‏ هو ضرب من الخيال‏.‏
لأن المخرجة هي من تختار الواقع المحدد‏(‏ صورت بنات الشوارع في المهندسين مثلا ولم تصورهم في السيدة زينب‏)‏ وقد تكون بنات الشوارع في هذا المكان المعين لا يمتهن مهنة مثلا وفي المكان الآخر يعملن في جمع القمامة‏,‏ وبالتالي تلقي الضوء علي الاستغلال الاقتصادي الذي يعاني منه فصيل منهن‏....‏ لا يظهر ولا يوضح كل هذا عندما لا تتناول الموضوع كظاهرة‏.‏ كما أنها تقوم بمونتاج الفيلم و تحديد حجم اللقطات واختيار زوايا التصوير وكل تلك عوامل تدخل منها في مسار العمل والذي لا يجعل منه عملا محايدا بأي شكل من الأشكال‏.‏
جاء تقديم بنات الشوارع في فيلم‏'‏ البنات دول‏'‏ و كأننا نري فيلما عن البقر الذي يعيش في شوارع الهند ويمشي في الطرقات دون أن يتعرض له أحد‏,‏ أو القرود التي تعيش بين البشر في العديد من ولايات الهند‏,‏ دون أن نعلم مدي قدسية تلك الحيوانات في الديانات الهندية‏(‏ أو لا نعرف بشكل كاف‏)‏ فجاء الأمر و كأننا أمام كائنات غريبة نتعاطف معها‏...‏ نكرهها ولكن الأمر يقتصر علي من نشاهدهم أمامنا علي الشاشة دون أن نعرف الكثير عن الظاهرة في مصر و أسبابها وما تفعله الجمعيات الأهلية لمساعدة تلك البنات‏,‏ فقط نستمتع بالاستعراض التي تقدمه لنا المخرجة و غرابته‏.‏
في فيلمها جيران قامت بنفس الشيء ولكن النتيجة كانت أكثر وقعا علي المشاهد‏.‏ فهي حضرت اجتماعا عقده السفير الأمريكي لجيرانه في حي جاردن سيتي الذي تغلقه تقريبا الاستحكامات الأمنية‏,‏ قامت بتصويره‏,‏ و جاءت لها فكرة صنع فيلم عن هذا الحي ومن يقطنونه والذين يعتبرون وفقا لعنوان الفيلم‏'‏ جيران‏'‏ وقامت السيدة تهاني بإجراء لقاءات مع من يقطنون هذا الحي‏(‏ أو كانوا يقطنونه‏)‏ من سكان قصور وبدرومات وتركت لكل فرد يسرد حكاياته كما يشاء دون أن تتدخل في سرد كل منهم للتاريخ من وجهة نظره‏)‏ التي يحق له أن يعبر عنها كما يشاء‏),‏ وبالطبع بما أن معظم السكان في السابق كانوا من نخبة ما قبل الثورة من الأثرياء جاءت وجهة نظرهم معادية للثورة و عبد الناصر و هو ما أثار حفيظة الكثيرين‏,‏ بالرغم من ظهور شخصيات أشادت بالثورة وبعبد الناصر‏.‏ لكن المشكلة أن المخرجة استمرت في منهجها السابق فلم تقم بأي بحث تاريخي جاد سواء عم يقال من الضيوف‏,‏ أو عن التغيرات الفعلية التي شهدها الحي منذ أن أنشأوه في عهد الخديو إسماعيل كما يذكر في الفيلم‏.‏
فنحن لا نعرف شيئا عن الحي إلا عبر شهادات من يظهرون في الفيلم‏,‏ وبالطبع هذا ليس كافي لا معبر عما يحدث وعما حدث‏,‏ فمن كان يسكن قصور جاردن سيتي وقت أنشاؤه في عهد الخديوي إسماعيل ؟ لا نعرف‏.‏ من قطنه بعد أن جاءت الثورة و‏(‏صادرت القصور‏)‏؟ كيف ظهرت الطبقة المتوسطة الجديدة في الحي‏(‏ محمود أمين العالم وعلاء الأسواني النموذجان الذان يقدمهما الفيلم‏)‏ هل هم من أنصار الثورة أم من الطبقة الجديدة التي سادت المجتمع في ذلك الوقت ؟ البنوك التي احتلت الحي في السبعينيات هل هي نتاج لقرار الحكومة أم لبيع تلك القصور من قبل أصحابها من بعد عودتها إليهم؟ و حتي عندما ذكرت الفندق الضخم الذي أتم تشيده مكان قصر فخم تم هدمه‏(‏ أظهر الفيلم صور القصر‏)‏ لم تحدثنا عن القصر ولا عن نمطه المعماري‏,‏ والأخطر أنها لم تذكر لنا أي شيء عن المخالفات و آليات الفساد التي سمحت بهدم القصر وبناء الفندق علي أرضه بالرغم من وجود قانون يمنع هذا‏,‏ وقد سجن محافظ الجيزة السابق لمخالفته لهذا القانون‏.‏ كما أن ظهور عادل السيوي الفنان التشكيلي الشهير ليحدثنا عن ذكرياته في المدرسة الوحيدة الحكومية الموجودة في الحي‏(‏ الإبراهيمية‏)‏ لم تبذل المخرجة أي مجهود بحثي حول ما إذا كان مبني هذه المدرسة هو مبني لمدرسة منذ وجوده أم هو قصر من القصور تحول لمدرسة‏(‏ ومن بناه ومن تبرع بالأرض‏,‏ أو هو قصر من السابقين سينما تهاني راشد بالرغم من جديتها الشديدة ومحاولتها سبر أغوار موضوعات لم يتطرق إليها الكثيرون ألا أنها تنهج منهجا تظنه هو قمة الحياد في نقل الواقع‏,‏ لكنه يؤدي في الحقيقة إلي إخفاء الكثير من عنصر الواقع‏(‏ حتي لو بشكل غير متعمد الواقع أو الحقيقة لا يظهر فقط أمام الكاميرا بل يجب البحث عنه بالتحقيق و الدراسة‏,‏ فليست الحقيقة هي ما تنقله الكاميرا فقط‏.‏ وليس الواقع هو صورا من الواقع‏.‏



تعليقات