فى واقعنا المعاصر كل شىء قابل للسرقة والسطو والتزييف هكذا أؤمن.. وأؤمن أيضا بغسيل المخ ووأد الأحلام.. لكنى لم أكن أتصور أن نصل لمرحلة أن يجبرك أحد أن تحلم ثم يفتش فى أسرار حلمك ويسرق ما به من أفكار ليبيعها لصالح شخص آخر، أو يبث أفكارا أخرى داخل حلمك فيغير مساره ويشكله كما يريد.. هذا ما حدث بالفعل وتنبأ به المخرج والسيناريست كريستوفر نولان فى تحفته السينمائية « البداية» التى يطرح من خلالها نفسه كأحد أكبر الحالمين فى عالم السينما وأحد أكبر الطامعين فى احتلال عقلك وقلبك وإعادة صياغة فكرهما ومشاعرهما.
ففى فيلم «البداية» كل شىء فى قمة التألق وكل مفرد من مفردات العمل السينمائى فى أبهى صوره وهو ما يدعوك لأن تقتحم المجهول برضا وقناعة وأن تستقبل المستحيل بابتسامة وترحاب، وأن تفكر فيما تشاهده من عوالم أخرى تنكشف خباياها وتتفاعل معها وأنت طوال الرحلة لا تعرف هل أنت فى الواقع أم فى الحلم، هل أنت يقظ أم نائم وغائب عن الوعى، وهو ما قصده المؤلف والمخرج، حيث وصلت قمة الذروة فى الحدث لأن يطرح أبطال الفيلم أنفسهم هذا السؤال: نحن فى حلم أم علم؟ وشيئا فشيئا يتسلل الإحساس أولا لدى بطل قصتنا المبهرة (دوم كوب) بأن ما يقوم به ويحدث له من مفاجآت مفزعة هو واقع وليس حلما، حتى مع تمسكه بنفسه ومحاولات إفاقة عقله وعودته من اللاوعى إلى الوعى درءا لتفشى الشر، فهو تارة يذكرنا بأننا فى مرحلة خداع كبرى وتارة أخرى يقحمنا فى واقع وهمى ومرة ثالثة نعيش معه واقعا حقيقيا، وذلك عبر عالم تتحكم فيه التكنولوجيا وتتلاعب بالعقول إلى أقصى درجة ممكنة.
وعنصر الإبهار هنا يكمن فى خطورة اقتحام الأذهان وغزو الأحلام، وربما زرع فكرة مجنونة وتنمو لتصبح الأغلى فى العالم وكأنها أصل حقيقى لصناعة تاريخ.
إن نولان هنا يبحث عبر سيناريو متماسك ومحبوك بشكل أخاذ لدرجة أن مفاجآته تحبس أنفاسك طوال الوقت، يبحث ويشكل فى الطراز المعمارى البشرى وكيف يمكن إعادة صياغة أركانه وجوانبه وإلهاماته وميوله فى الخير والشر.
الفيلم يبدو للوهلة الأولى انتماؤه إلى نوعية الخيال العلمى، لكننى أرى أنه يفوق كل التوقعات فى هذا المجال، وبدا أكثر جرأة حتى فى مشاهد الأكشن التى دارت على الجليد وبصورة بصرية رائعة لم تكن أبدا مزعجة كما نجدها فى أفلام أخرى، وإن كنت أرى أن عدم وجودها بالفيلم كان سيمنحه خصوصية أكبر، لأنه فى النهاية يخاطب عقل المشاهد ويتلاعب به وهو هنا ليس فى حاجة لمعارك، لكنه استعراض نولان الكبير الذى أراد أن يقدمه ليفوق أستاذه ستانلى كوبرك.
وأعود لأصل الحكاية فهناك شخصية دوم كوب ( ليوناردو دى كابريو) وهو سارق محترف خارق وغير طبيعى يستطيع أن يفعل أى شىء، ولكن موهبته الكبرى هى الدخول إلى أحلام الناس والتسرب إلى عقول الآخرين لكشف طموحاتهم ونواياهم واستنباط معلومات مهمة لصالح البعض، كما يقوم بالتفتيش فى الماضى للبحث عن أسرار يمكن استغلالها وهو يسيطر على ضحاياه بالإيحاء، كوب يقوم بكل ذلك فى إطار الأحلام، وحين يكون العقل فى أضعف حالاته يتجول فى العقل الباطن بكل حرية، وفى «البداية» يحاول كوب الإيقاع برجل أعمال مهم يملك شركة للطاقة بعدما أتى إليه رجل أعمال آخر يطلب منه اقتحام عقل وريث منافسه فى السوق ومعرفة ما يدور فى ذهنه والتأثير عليه لجعله يكره أباه وينقلب ضده ويرشده وهو نائم عن مخططاته وأرقام الخزينة التى تحوى أوراق وملفات الشركة السرية، ويلجأ كوب فى إطار تنفيذه العملية الى الاستعانة بمجموعة من الخبراء فى الكيمياء والفن التشكيلى والتأثير المغناطيسى حتى تكتمل الصورة ليعيش فى عالم آخر، لكن وطبقا للعرف ليس هناك جريمة كاملة، فإن كوب يعرض المهمة كلها للخطر بسبب ظهور زوجته الراحلة فى أحلامه التى هى مسرح الجريمة وتؤثر على عقله وتفكيره، حيث يشعر بعقدة الذنب وأنه وراء موتها عندما عاشا حلما وقفزت من أعلى العمارة فى الواقع ليتهمه الجميع بقتلها فيهرب تاركا طفليه، وعندما تنتهى المهمة يعود إلى وطنه من أجل رؤية وجه الطفلين والعيش معهما، ولم ينس المخرج أن يقول فى مشهد النهاية ولدى عودة كوب إلى وطنه «أهلا بكم فى الولايات المتحدة الأمريكية» فى إشارة الى أن هذا الإبهار الكبير والعالم السينمائى اللا محدود هو من قلب أمريكا، فهى وحدها صاحبة حقوق الإبداع وملهمة الخيال فى الفن السابع وإنها تستطيع أيضا ان تقتحم أحلامك وتغزوها.
كريستوفر نولان البريطانى الأمريكى كشف عن قدراته التى ظهرت ملامحها فى «بات مان» التى لم يستخدم الجرافيك فيها إلا فى حدود، لكنه هنا استطاع أن يعيد صياغة مفهوم المؤثرات البصرية من جديد وفتح لها آفاقا لم يتخيلها أحد من قبل، كما أن السيناريو الذى كتبه يحمل بنية تسير فى عدة مستويات فى وقت واحد توحى بالغموض والترقب والخيال ليبلبل عقل المشاهد فى إفادة إلى أن الحلم هو الحقيقة التى نعيشها أو يجب ان تكون كذلك، كما يحسب لنولان أيضا روعة المونتاج الثرى فى تتابعه للقطات فى المواقف المختلفة، حيث مزج بينها على أكثر من جبهة وبإيقاع لاهث استحوذ على درجة انتباهك لأقصى درجة رغم أنه بدأ من النهاية وسار فى سرده على طريقة الفلاش باك، وقد أتاح «البداية» فرصة ذهبية لتعديل مسار أداء دى كابريو التمثيلى، وأعتقد أنه سيمثل علامة فارقة فى تاريخه، ليس هو فقط بل ومع نجوم الفيلم الآخرين سواء ألين بايج أو كين واتناب أو جوزيف جوردون