هل هي مجرد مصادفة "سينمائية" أن يتزامن عرض فيلم "سولت SALT" الذي يدور حول اكتشاف عميلة للمخابرات الروسية في أمريكا مع إعلان الولايات المتحدة كشفها لشبكة تجسس روسية مكونة من عشرة أشخاص؟ في مهمة طويلة الأمد تمتد منذ تسعينيات القرن الماضي.. أي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بوقت قصير، مما يعني أن الخطة تم وضعها إبان وجود الكيان الشيوعي الأكبر والعدو اللدود لأمريكا طوال نصف قرن كامل أطلق عليه الحرب الباردة!
الملح الذائب
الترجمة الحرفية لعنوان الفيلم تعني الملح، ولكن العنوان في الأصل يشير لاسم عميلة المخابرات الأمريكية (ايفلين سولت/ انجلينا جولي) التي تبدأ الأحداث وهي محتجزة في كوريا الشمالية قبل عامين بعد اكتشاف غطائها السري، ثم تتم مبادلتها بجاسوس كوري بمعاونة زوجها عالم العناكب الألماني الشاب.
ولكن بعد عامين يصل أحد عملاء المخابرات الروسية إلى CIA، ويجلس مع سولت وأمام كاميرات المراقبة وجهاز كشف الكذب وتسجيل الحوار يقول لها إن هناك عميلا روسيا نائما (أي مجندا ومختبئا من وقت طويل) سوف يقوم باغتيال الرئيس الروسي الذي يزور أمريكا، وذلك للإيقاع بين أمريكا وروسيا مرة أخرى، وتوريطهما في حرب نووية.
ويقول لها أن اسم هذا العميل هو سولت أي أنها هي العميل الروسي.. فتهرب سولت من محاولة إنقاذ زوجها من خطر الاغتيال والدفاع عن نفسها ضد هذه التهمة.. لكننا نكتشف تدريجيا أن الحقيقة ليست كما نتمنى، وأنها ليست بريئة من التهمة بالفعل.. ويبدو اسمها الذي يعني "الملح" صاحب دلالة درامية مهمة، وهو أنها بالفعل عميلة روسية مدربة منذ الصغر، لكنها كالملح ذائبة في المجتمع الأمريكي والمخابرات الأمريكية.
أكشن سياسي
ينتمي الفيلم إلى نوعية الأكشن السياسي، وهي نوعية يحترفها الأمريكيون إلى حد كبير.. فبينما تتصاعد الأحداث بشكل سريع ولاهث بدون توقف ولا استراحة ولا محاولة للتخفيف من المطاردات والتحضير لعملية اغتيال الرئيس الروسي.. نتابع تطورات الفكرة السياسية في الفيلم، التي تشير إلى وجود عملية مخابراتية سرية تتم منذ أوائل الستينيات هدفها زرع عملاء سوفيت داخل المجتمع الأمريكي منذ الصغر، وتصعيدهم داخل مناصب مهمة وحساسة في الكيان الأمريكي في انتظار ساعة الصفر، وهو ما يطلق عليه "اليوم المشهود" أو "اليوم X".
ويشير الفيلم إلى أن "لي هارفي ازورلد" الذي اتهم في اغتيال كينيدي كان أحد هؤلاء العملاء ويعرض لقطات تسجيلية من الأرشيف لعمليات تجنيد وتدريب الأطفال في المعسكرات السوفيتية لإعدادهم كعملاء ميدانين لعملية الغزو المخابراتية السرية لأمريكا من قبل السوفيت، ومن هنا تصبح مصادفة اكتشاف شبكة التجسس الروسية التي تم الإعداد لها في العهد السوفيتي أكبر من أن تكون مجرد مصادفة زمنية أو تثبت السينما مرة أخرى أن لديها ليس فقط قدرة على تحليل الواقع ولكن أيضا على استشراف المستقبل.
الحكي عبر الذاكرة
يعتمد الفيلم في طريقة سرده للأحداث على كثير من مشاهد الفلاش باك، سواء من خلال حكي ضابط المخابرات الروسي الهارب لأمريكا عن عملية تجنيد الأطفال الصغار.. أو عندما تتذكر سولت نفسها وكيف تعرفت على زوجها.. وكيف أحبته وتزوجته على الرغم من أنها تعلم أن ذلك ضد القوانين المخابراتية.. ثم تكشف لنا ذاكرتها عن حقيقة أنها مجندة روسية منذ الصغر.. وأنها كانت ضمن معسكر إعداد الأطفال كعملاء سريين.
وتأتي أهمية السرد عبر الذاكرة أو مشاهد الفلاش باك في توضيح طبيعة تفكير الشخصية الرئيسية ونياتها ومبرراتها الدرامية، خاصة أن الشخصية تكاد تكون شخصية صامتة خلال أغلب الأحداث، وهو ما يزيد من التشويق ويرفع درجة تركيز المتفرج من أجل التعرف إلى طبيعة وهدف ما يدور.. عبر الحدث المصور وليس عبر الحوار.
وهكذا نكتشف أن سولت كانت طول الوقت تعيش حياة ثلاثية! فهي في الظاهر عميلة مخابرات أمريكية، وفي الباطن عميلة سوفيتية نائمة في انتظار إشارة التفعيل.. ولكنها في أقصى أعماقها إنسانة ترغب في الانتقام ممن قتلوا والديها في روسيا وأسروها وقت أن كانت طفلة من أجل أن يصنعوا منها جاسوسة، ثم قتلوا زوجها الحبيب أمام عينيها لكي يتأكدوا من أنها لا تزال معهم ولم تنقلب عليهم.
هذه الشخصية ثلاثية الأعماق أدتها أنجلينا جولي بتمكن كبير ساعدها على ذلك قدرتها على التعبير من خلال عينيها وملامح وجهها، ولياقتها البدنية التي أدت بها أغلب مشاهد الأكشن والمطاردات بإقناع كبير.
مكة وطهران
يتطرق الفيلم إلى فكرة زرع الفتنة ما بين أمريكا والعالم الإسلامي عبر أعداء أمريكا، وبذكاء وجرأة لا يوضح الفيلم إذا كانت عملية زرع عملاء سريين منذ الصغر تتم بمعرفة الحكومة الروسية أم لا؛ إذ ترك تلك النقطة مفتوحة لفهم أو تأويل المشاهد.. مما يذكرنا بالأفلام التي ظهرت طوال فترة الحرب الباردة، التي كانت تشير دائما إلى السوفيت أو الروس على أنهم من يقفون دائما وراء مشكلات أمريكا مع العالم.
ففي الفيلم يحاول أحد العملاء الروس أن يقوم بضرب مكة وطهران بصواريخ نووية من أجل قتل 9 ملايين مسلم، وإشعال نار غضب مليار مسلم في العالم على أمريكا.. واختيار طهران ومكة بالذات سببه واضح؛ إذ تمثل طهران الجانب الشيعي بينما تمثل مكة قلب الإسلام والجانب السني، وهو اختيار ذكي دراميا وسياسيا، ويتفق مع فكرة الفيلم الأساسية، وهي ضرورة البحث عن الأصابع الخفية المندسة في أمريكا والعالم التي هدفها ضرب المصالح الأمريكية، أو تشويه صورة أمريكا أمام العالم، وهي كالعادة فكرة مدافعة عن الكيان الأمريكي الذي يعيث في الأرض فسادا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في زمن القطب الواحد.
وبالطبع يجب أن تنقذ البطلة الأمريكية العالم "الإسلامي" من كارثة محققة، وتمنع قيام الحرب العالمية الثالثة، مع تأكيدها أنها لن تستطيع القيام بذلك بمفردها! ولكن يجب أن يساعدها الآخرون! والآخرون هنا ليسوا فقط المواطنين الأمريكيين المطلوب منهم التبليغ عن أي نشاط مثير للشبهات -مثل نشاط شبكة التجسس الأخيرة-، ولكن نحن أيضا؛ إذ يجب أن نتعاون معهم لفضح تلك الأيادي السرية التي تحاول أن توقع بيننا وبينهم.. وهي رسالة نفعية بالطبع تتخذ شكل الحق، ولكن يُراد بها الباطل.