"عُمرِك سمعتي عن تلجاية نفسها تقعد في الشمس ؟!"
تقول كُتب الطب النفسي أن الأعراض الأولى لمرض "الفصام - Schizophrenia" تبدأ بشعور الفرد بعجزه التواصل مع المجتمع من حوله ، ويتلو ذلك الشعور بالرفض والاضطهاد من الجميع مما يدفعه للقيام بتصرفات الغريبة ، تتحول بعد ذلك لجمود عاطفي وعزلة تدريجية عن "الآخر" وينغلق أكثر على نفسه ، وبعد ذلك ... ، بعد ذلك تظهر "فريدة" .. يُعطيها اسم جدته ويجعلها ابنة الكاتب الذي تعوّد على القراءة له صغيراً ويُسكنها في بيت عائلته القديم ، وفي المقابل تمنحه "الونس" الذي يُريده وتدفعه لمواجهة مخاوفه وفعل كل ما أراد يوماً أن يفعله : بدءً بملابسه ، القصر الذي تمنى دخوله ، الموتوسيكل الذي أراد شراءه ، ساعدته على أن يجد "ضحكته" ، والأهم أنها أخرجته من عزلته ومنحته القدرة على التواصل مع الناس ، ليخبرها في النهاية أنه يحبها : "التلجاية خرجت من الفريزر وقعدت في الشمس يا حسن" !
من الصعب وصف هذا الفيلم بالكوميدي رغم كونه واحد من أكثرها إضحاكاً ، ومن الصعب وصفه بالرومانسي رغم احتواءه على واحدة من أجمل العلاقات العاطفية ، ومن الصعب كذلك اعتباره "دراما" خالصة رغم كل ما يحتويه من عمق ، هذا هو "الفيلم الفلتة" ، نموذج لما حاولنا صنعه كثيراً في السينما المصرية وفشلنا ، وينجح هذا العمل في تحقيقه بفضل ثلاثة رجال .
أيمن بهجت قمر يكتب سيناريو مُدهش فعلاً ، ممتلئ بالتفاصيل التي تُكتشف عبر كل مشاهدة جديدة ، بدءً ببناء عبقري لشخصيته الرئيسية "حسن" .. مهندس الطيران الذي أراد أن يصبح طياراً ولكن بقى على الأرض بسبب "خوف والدته" .. هذا الخوف الذي أعاقه عن الكثير مما يريد فعله وخلق حاجزاً بينه وبين الناس ، خصوصاً مع غياب الأب في أغلب الأوقات بسبب السفر ، ومع اختفاءه تماماً .. يمنح لنا السيناريو مساحة لتخيّل "الانغلاق والضغط" الذي عاشت فيه الشخصية ، ومنذُ بداية الفيلم نرى كل أعراض الشيزوفرنيا الناتجة عن وحدته : التصرفات الغريبة .. الشعور بالاضطهاد .. الغزلة والغضب من المجتمع وحتى الأصدقاء ، لذلك فإن "إعادة" الأب و"خلق" فريدة نتيجة منطقية جداً لبناءِ الشخصية ذاتها .
بعد ذلك يُدهشني السيناريو ثانيةً ، أولاً في منحه شاعرية غير مفتعلة لعلاقة الأب بالابن الذي ارتبط به لدرجة إعادته من الموتِ حياً "شايفة الطيّارة دي ؟ أبويا هُوّ اللي طاير بيها ، راجع من نيويورك دلوقتي .. بُصّي بيجري بسرعة إزاي ؟! ، ميت مرّة قلتله متجريش كِده عشان متطلقش رادار" ، وثانياً في كيفية جَمع التفاصيل ونثرها عبر الفيلم حول فريدة ، الصورة المثلى لـ "فتاة الكافية" التي لم يستطع محادثتها بسبب شعوره بالاضطهاد ، الاسم .. والأب .. والمسكن .. والحياة ، كلها أشياء من ذاكرة ومُخيّلة "حسن" ، يمنحها لفريدة فتدفعه لثورة هادئة على حياته .. ليصل لمشهد "الرحلة" الأشبه بالحلم والذي نشعر فيه أن البطل في أسعد لحظات حياته "انتِ شجعتيني أعمل كل الحاجات اللي كُنت بخاف أعملها ، بقيت حاسس إني حاسس الحياة بشكل مختلف .. زيّك" .
خالد مرعي في المُقابل يمنح كل لحظة في سيناريو بهجت قمر الاهتمام الذي تستحقه ، يقابل ذكاء السيناريو وانسيابية حواره بتفهم ونقل كامل لروحِ النص بل والإضافة لها ، ويُراهِن على المُشاهد في التقاط التفاصيل حتى لو حدث ذلك في مشاهدات ثانية ، كالرجل الذي يقف أمام الكافية وينظر باستغراب لـ"حسن" الذي يُحادث "فريدة" المُتخيّلة ، أو في آثار أقدام غير موجودة لفريدة فوق الرمال ، أو في عربة حسن التي نراها في بداية الفيلم - بمنظوره الخاص - يملأها التراب ومكتوب عليها "حمار" ثم في المشهد التالي تكون نظيفة تماماً ، أو في الأب والأم الذين لا يجتمعون في أيّ مشهد ، وغيرها من التفاصيل المُنسابة بهدوء لتزيد من قيمة الفيلم ، ولكن الأهم من ذلك فعلاً هو قدرة مرعي - المونتير الرائع كذلك - على خلق أجواء خاصة بالفيلم ، أجواء غريبة ولكن الفيلم يخلق منطقه الخاص فلا تدهشنا ، أجواء نتذكر جيداً كل شخوصها - حتى هؤلاء الذين ظهروا في مشهد واحد - ﻷن مرعي يمنح فيلمه "مشهدية" مُلفتة ، السايس وبائع الأعلام وصاحب محل الموتوسيكلات ومدحت جرسون الكافية وحتى روّاد المقهى "يـأاا" ، ونهايةً بشخصية "نسيم" التي أداها محمد شرف بعبقريّة ، شخوص لا يساهموا فقط في زيادة الضحك ولكنهم يخلقون عالم البطل وعالم الفيلم .
وأخيراً أحمد حلمي، الذي يسمح للجميع مشاركته العرض والأضواء فينال في النهاية كل التصفيق ! ، فرغم أداء محمود حميدةشديد الحميميّة - الذي يقنعك فعلاً بكونه الأب الذي تستعيد صورته حتى لا تفقده - وأداء دلال عبدالعزيز في أجمل أدوارها ، وكذلك منّة شلبي المُنطلقة واللماحة والتي تقدم كوميديا شديدة الصعوبة ، مع كل الإشادة بهؤلاء سنجد في النهاية أن المديح الأكبر لحلمي نفسه .. الذي جعل النص والإخراج والأدوار الأخرى في نفس أهميته ولم يعتمد فقط على اسمه كنجم سيأتي إليه الجمهور بسبب كاريزمته ، ليقدم في النهاية أفضل أدواره بتفهم شديد لكل مكونات الشخصية التي يؤديها ، ويصنع بها كوميديا شديدة الصعوبة والخصوصيّة والذكاء .
وإذا كان أحد تعريفات الأفلام الرائعة هو احتواءها على لحظات تبقى في ذاكرة المُشاهد ، فهذا الفيلم يملك الكثير من اللحظات التي لا تفارق ذاكرتي ، اللحظة التي يرسم فيها "حسن" صورة "مريم/فريدة" ، أو حين يقفز معها لقصر البارون ويحضر لها فيها الورد "إلى فريدة .. أول مرة أعلمها" ، أو حين يعود لمنزله ويعطيه لوالدته "أصل من كُتر ما بقولك يا ماما نسيت نوال ده خالص" أو ردها عليه "وانتَ من أهله يـا .. انتَ اسمك إيه ؟" ، مشهد الموتوسيكل مع الأب .. أو مشهد الشطرنج الذي يليه ، كل لحظات محمد شرف والكوميديا الاستثنائية التي تقدم من خلالها "انتَ بتستغرب ولا بتنده حد فينا ؟" ، مشهد الرحلة .. الطريقة التي يخبر بها حسن فريدة أنه يحبها "أنا نفسي تحبيني على فكرة" أو مشهد خروج التلجاية من الفريزر فوق الموتوسيكل ، أو مشهده الأخير مع فريدة "مش هقدر .. عشان مش عايز أبقى لوحدي !" أو الآخر مع الأب في حديقة المستشفى "كنت فاكر هتشبط في المضيفات ، لكن انتَ حَبّيت شكل السحاب" ، كلها لحظات تزداد جمالاً كلما أشاهد الفيلم وكلما تتقادم بالذكرى .
وإن كان هُناك شيئاً يقلل من قيمة الفيلم ، فهو المنحى التجاري الذي اتخذه في نهايته إرضاءً للجمهور ، حيثُ تزوج البطل وحقق مشروعه وكل شيء سار على ما يرام وهي نهاية تصالحية بشكل مبالغ فيه وحدثت على عَجَل في الربع ساعة الختامية فقط ، ولكن خلاف ذلك .. فهذا واحد من أميز وأفضل الأفلام المصرية خلال الألفية ، التلجاية التي خرجت من فريزر السينما المصرية وجلست في الشمس !