كان صمته في " مدرسة المشاغبين" أبلغ من شغب عادل إمام و سعيد صالح ، وبهذا الصمت وحزن عميق في العينين ﻻ يشبه إلا حزن عبد الحليم حافظ تمكن أحمد زكي "توفي 27 مارس 2009" من اصطياد محبة الجمهور.
حزن واحد دفعت به مدينة الزقازيق على دفعتين ، بفارق عشرين عاماً كي يحتلا حاملاه النجومية، رغم اﻻختلاف بينهما .إذا كان عبد الحليم بادي المرض بينما كان أحمد زكي بادي الصحة،لكنه في النهاية لم ينج، إذا اكتشف المرض اللعين ووجد المصريون أنفسهم أسري حياة فردية واحدة يتابعون بخوف مصيرها طوال أسابيع قضاها احمد زكي في المستشفي.
الجميع صار متخصصاً في المرض الوحيد الذي ﻻ ينطق المصريون اسمه، إنما يشيرون إليه بـ"المرض الوحش" وهو وحش وشرس لأنه يتمسك بكلمته عادة في مواجهة الأخيار فقط ، أو هكذا نظن لأن موت اﻻشرار ﻻ يعنينا.تمسكنا لاخر نفس برفض الموت وأخذنا نتابع خطوات علاج يواصلها أطباء يائسون لم يجرؤ أحدهم على إعلان يأسه.
الاطباء المصريون الذين ﻻ تعوزهم خبرة التعامل مع مرض وحش أصبح شعبياً بفضل الطعام المسرطن ،أرادو اﻻحتماء بتميمة فرنسية لفتح ثغرة وهمية في جداء اليأس وربما لإعفاء أنفسهم من مسئولية التقصير أمامنا ، نحن أهل أحمد زكي ،وهكذا فإن الفرنسي الذي يستشيره الأطباء المصريون يومياً صار شهيراً في كل بيت باسمه المفرد "شيفالييه" هكذا ببساطة كأننا نتحدث عن واحد من العائلة.
انتزع أحمد زكي له ولنا مساحة يومية من صحف ﻻ تخصنا منذ زمن طويل ، أحمد زكي أكل اليوم ربع فرخة ، أحمد زكي طلب كيلو كباب من المطعم الفلاني ، وأصبح الخلاف بين أن يكون أكل ربع فرخة أم طلب كيلو كباب ولم يأكله، تأسيساً جديداً لثقافة اﻻختلاف لكنها للاسف مبنية على الغش ،تماماً مثل مزاعم الاصلاح !
المحررون الفنيون تركوا أنفسهم راضين لإدعاءات عمال الخدمة في المستشفي رغم أنهم يعرفون بأن الجسد لم يكن يقدر على تلقي أكثر من الاكسجين النقي.
أحمد زكي الذي أعاد تمثيل حياة عبد الحليم حافظ جرجر أحزاننا على حليم ، وهما معاً ﻻ يمكن إلا أن يعيدا سعاد حسني ،التي لم تأت مثل الرجلين من المحافظة نفسها ولم تسبح في الترع ذاتها التي أعطتهما بلهارسيا قتلت اﻻول وادخرت الثاني للسرطان.
الفتيان وقعا في حب الفتاة، وللثلاثة عيون ضاحكة تخبىء داخلها للحساسين فقط مئونة من الحزن شفافة ونبيلة، أو هي في اﻻصل حزينة تعلمت الضحك فقط عشان الصورة تطلع حلوة.
ربما يختلف عبد الحليم عنهما بأن بكاء عينيه كان يسبق ضحكهما، كان حزنه مبذوﻻ ويتمه ومرضه كان مشهرين في مواجهة من يتطلع إلي وجهه، مثلما يفعل طفل شديد التأنيب لوالديه علي إهمالهم له ذات يوم، بينما أخفت سعاد وأخفي أحمد زكي حزنهما كما لو كان سراً عزيزاً.
الثلاثة تبناهم العبقري صلاح جاهين، وبعد رحيل حليم لم يعد له إلا "هو وهي" أحمد وسعاد فقدمهما في سيناريو وأغنيات حلقات " هو وهي" التلفزيونية عن قصص سناء البيسي .
كان ظهورهما معاً في تلك الحلقات بهجة للحواس .والعنوان أكثر من دال لأننا لو شئنا إقامة نصب للأنوثة المصرية فلن يكون غير سعاد ،وبالمثل ﻻ يمكن أن يكون نموذج الذكر غير أحمد زكي بشعره اﻻكرت وسمرته المتوسطة التي توحد جنوب مصر بشمالها.
لحليم وسعاد وأحمد حيوات عادية مثلنا،هم مجرد "هو وهي" لم يغادروا الحالة البشرية الأرضية،وهم من بين الفنانين جميعاً المعروفين بأسمائهم. وفي ألقابهم التي إنبسقت من بين الناس تواضع ظاهر واحتفاء ببشريتهم وفرديتهم ،"العندليب" وليس سلطان الطرب مثلاً ، "سندريلا" وليس سيدة أو نجمة الشاشة أو الجماهير ، وأحمد زكي هو اﻻسم ذاته وبالكاد فهو الفتى اﻻسمر، ﻻ وحش الشاشة وﻻ الزعيم.. كل منهم مسيحنا الذي تحمل عنا الالام علي صليب اليتم والوحدة أو الوحدة دون يتم ثم المرض.
قبل شهر واحد من فاجعة اكتشاف مرضه رأيته، كان وحيداً علي الطاولة المجاورة لي، في مقهي الجريون يحاور مثلي الشيشة في صمت ، لم أجد بنفسي حاجة لأن احييه رغم حبي له، ورغم أنه ﻻ يعاني من اﻻنتفاش الكريه الذي يعانيه بعض النجوم ويجعل التكبر عليهم صدقة.
ظللت في صمتي أنتظر أصدقاء تأخروا،وهو كذلك كان يرعي صمته،وفي عينيه رغم ضوء المقهي الخافت يلمع الحنان نفسه الذي كان في عيني "أحمد الشاعر" .
كان دوره في المسرحية التي أطلقت كل نجومها "مدرسة المشاغبين" أن يجلس خجولاً ملموماً على نفسه في اخر الفصل يحاول النجاح بين طلاب فصله كثيري الصخب : عادل إمام ،سعيد صالح ، يونس شلبي ، والمعلمة التي خسرها الفن المصري سهير البابلي. وهو بهاتين العينين فقط لأنه لم يكن يتحرك أو يتكلم استطاع أن يكون موجوداً بقوة.
فقط كان ينظر وقد ظل هكذا حتى لو تكلم وتعارك وأطلق الرصاص في أعماله اﻻخري ، ظل السر في عينيه القريبتين جداً الصادقتين جداً المقنعتين دائماً.
عاش ليكون الممثل المحترف الذي يترك للسيناريست عمله وللمخرج عمله، وليس الطاغية الذي يحرك كل شىء لذلك فقد كان الوحيد الذي عبر محنة السينما الجديدة، وقد عصفت بكل أبناء جيله. على أن السر ﻻ يكمن في التواضع فقط بكل تأكيد، فأحمد زكي نوع نادر من الممثلين ﻻ يقف بإتقانه عند حدود تقمصه للدور في الرواية، بل يتعداه إلي تلبس روح المشاهد نفسه، الذي ﻻ يعود متفرجاً على، بل مشاركاً في العمل ...هذا التعدي بالتقمص جعله واقفاً على قدميه لم ينهزم إلا أمام المرض الوحش.
بورترية عن الفتي اﻻسمر "احمد زكي" من كتاب ذهب وزجاج للكاتب عزت القمحاوي