تقول الأسطورة أن الشِّعر لا يُكتب ، الشِّعر يُرى .. بهبةٍ ربانية يمنحها الله لبعضِ من عباده ، يخصَّهم بـ"رؤية الشِّعر" واكتشافه ونقله للآخرين ، ولذلك .. أنتَ لا تَسمع الشعر .. لا تقرأه .. لا تكتبه ، أنتَ تراه .. ﻷن الشِّعر ليسَ إلاَّ خيط من نور ، وبالنسبة ل تيرانس ماليك .. فإنه قرر ألا يُصَوِّر أيًّ من مشاهد فيلمه الجديد " شجرة الحياة" إلا في ضوءِ النهار .. ﻷن فيلمه في حقيقة الأمر ليس إلا "قصيدة شعر" !
والأمر ليس مبالغة ، فطوال مسيرته التي استمرت لثلاثين عاماً وأنتجت أربعة أفلام فقط ، كان دائماً ما يَنْسِج ماليك كل فيلم كـ"قصيدة شعر" ، تَلْمَسُ فيها النور .. وتَسْمَعُ الطبيعة .. وترى في الشخصيات ما هو أبعد من ظاهرها .. وتحاول - ككلِّ شعرٍ جيّد - اكتشاف المعنى الحقيقة للحياة .
لذلك فليس عصياً على من شاهد أفلامه الأربعة معرفة السبب في الوقت الطويل الذي استغرقه كل فيلم ، وكيف أن الرجل لا يقدّم فقط سينما شاعرية خاصة ، ولكنه يحاول في كل مرة أن يُكْمِل القصيدة عند الجزء الذي انتهى منه قبلها .
وفي فيلمه الخامس "شجرة الحياة" يبدو ماليك أكثر رغبة في التعويل على "شعريّة" ما يقدّمه حتى من ذي قبل ، فهو العمل الذي قال أنه رغب في تقديمه منذ بداية مسيرته في السبعينات ، وظل يَستكشفه على مدار سنوات متتابعة ، حتى استطاع في النهاية أن يبدأ فيه ، جامعاً قصة مبهمة عن جيلين متتابعين من أسرة واحدة منذ الخمسينات وحتى الآن ، ولكن في جوهر ذلك هناك قصة أخرى عن نشأة البشرية ذاتها .
وظل ماليك وطاقم عمله شديدي الكتمان على ما يقدمونه ، لدرجة أنه لم يحضر المؤتمر الصحفي الذي أقيم قبل عرض الفيلم في مهرجان كان ﻷنه "لا يريد توجيه الجمهور بشأن رؤية الفيلم بأي شكل" قبل أن يُضيف : "لقد صنعت الفيلم بجزءٍ من روحي ، وأريد لكل شخص أن يراه وكأنه يتعامل مع قصيدة شعر ، وأن يُأوِّل كل ما فيه وفقاً لخلفيته وأهوائه وما يمسه الفيلم في روحه" .
وهو نفس ما يؤكده بطل الفيلم " براد بيت" حيث يقول : "منذ بداية حياتي كان لدي أسئلة مستمرة .. حول الله والكون والبشرية والدين ، أردت دائماً طرح بعضها ولم يشاركنِ أحد البعض الآخر ، حتى قمت ببطولة هذا الفيلم ، وشعرت به يؤانسني ويشاركني كل ما كنت أفكر فيه طوال حياتي" ، قبل أن ينهي المؤتمر قائلاً : "لقد تأثرت بالفيلم وبالعمل مع ماليك كثيراً" .
ماليك في فيلمه الخامس يصنع توازناً مُدهشاً قل تواجده لـ"فيلم سعفة" ، فهو واحد من أكثر مخرجي العالم فنية اليوم ، في فيلم من المرجح أن يحمل قيمة رفعية ، وبالإضافة إلى ذلك .. فهويجمع فيه نجمين هوليوديين بحجم "براد بيت" و" شون بين" ، مما يجعل تتويجه في النهاية هو الأكثر احتمالية في ختام تلك الدورة .