خلال السنوات العشر الأخيرة، فَرض المخرج البريطاني « بول جرينجراس» نفسه واحداً من أهم مُخرجي أفلام «الحركة» في هوليوود، إذا لَم يكن أهمهم على الإطلاق.
في تلك السنوات، بدءً من عمله Bloody Sunday الذي يتناول فيه مذبحة الحكومة البريطانية ضد متظاهرين آيرلنديين في ظهيرة «أحد دامي» عام 1972، خَلق «جرينجراس» لنفسه خطَّاً مميزاً، يعتمد على التورُّط والتعامل مع كثافة اللَّحظة، أنتَ جزءً من تلك التظاهرات الاحتجاجيَّة التي تتعرض لإطلاق الرصاص، أو –لاحقاً- تجد نفسك مُحتجزاً على مَتن إحدى الطائرات التي نفذت هجوم الحادي عشر من سبتمبر في United 93، أو متورطاً مع العميل « بورن» في اثنين من أفلامه الأكثر تقديراً.
لذلك، لم يَكُن غريباً على الإطلاق أن نسمع قبل قرابة العام عن رغبة «جرينجراس» في تحويل كتاب «واجب كابتن: قراصنة صوماليون، قوات البحرية الأمريكية، وأيام خطيرة في البحر»، للقبطان الأمريكي «ريتشارد فيليبس» إلى فيلمٍ سينمائي، يتناول فيه قصة تلك الأيام القليلة التي تم اختطاف سفينته فيها من قِبَل «قراصنة صوماليين»،كأول سفينة أمريكية تتعرض للقرصنة منذ 200 عام.
Captain Phillipsيمثل تحديداً نوعية القصص التي يحبها «جرينجراس» ويَبْرُع في حَكيها، التوتر المَكتوم، والأماكن المغلقة، وفي عُمق ذلك ملامسة الجوانب الأكثر هشاشة من أبطاله الذين يمرُّون بالموقف الأصعب في حياتِهم.
«جرينجراس»، عن سيناريو للكاتب « بيلي راي»، يستغرق قرابة الساعة كي يَدخل بشكل حقيقي في أحداث الفيلم، لم تبدأ تلك الأحداث مع اختطاف السَّفِينة أو السيطرة عليها، حيث اتسمت تلك المرحلة، بالنسبة لي على الأقل، ببعض البرود والآلية، لا يوجد ذلك الشعور بالـ«تورط» و«الاختناق» الذي تشعره في طائرة «يونايتد 93» مثلاً، الأمر هنا كان سينمائياً بدرجة أكبر، على الرغم من كل محاولات «جرينجراس» ومصوره المُفضّل «باري أكرود» في مَنحه صورة واقعية.
الفيلم يبدأ بشكل حقيقي عند الخروج فعلاً من السفينة، حيث يُختطف الكابتن «فيليبس» من قبل القراصنة في قارب نجاة صغير لأن 30 ألف دولار فقط كانت على السفينة لا تكفي أملهم في ثورة ضخمة، لذلك فقد قرروا اختطافه ومفاوضة الحكومة الأمريكية على بضع ملايين كي تحافظ على حياته.
عند تلك اللحظة، يَدمج «جرينجراس» رُهاب الأماكن الضيّقة، بالضغط الذي يزداد في كل ثانية على رجل يكاد يفقد حياته وبضع خاطفين يعلمون أن وضعهم ليس أفضل حالاً، مع أداء استنائي من ممثل عظيم مثل « توم هانكس» ورائع جداً من أربعة ممثلين مغمورين من الصومال، لينتج بالنهاية ساعة من أهم الإشراقات السينمائية التي قدمتها هوليوود هذا العام.
في تلك الساعة الثانية تجد نفسك، كما حدث في أفلام «جرينجراس» الأهم، جزءً من الحدث، يَستطيع، بحس سينمائي مميز، أن يُمارس الحياد بين الطرفين، القبطان المُختطف دون أي محاولة لإضافة بطولة أو ملحمية عليه، هو فقط رجل يُريد العودة لمنزله، في مُقابل مُخْتطفين يعانون من فقر وقهر كبير في بلادهم، يقول القبطان «فيليبس» أن «هناك خيارات أخرى بالتأكيد غير أن تكون صياداً أو قرصاناً»، يجيب خاطفه ساخراً «ذلك فقط في أمريكا وليس هنا»، «جرينجراس» لا يترك الحدث يَفْلت من يديه، ولا يستغرق كثيراً في أفكار ومشاعر الشخصيات، هذا أمر جيد، لأن الجزء الضئيل الذي يظهر منهم والقليل جداً الذي نعرفه عنهم يبدو كافياً كي يضعنا تماماً كجزء مُتورّط فيما يَحدث.
ذلك التمكُّن الشديد من تقديم شخصيات حيَّة وتكثيف الخدث العنيف الذي يمرون به يساعد «جرينجراس» لاحقاً،حين يصل إلى ذروة فيلمه في عملية الإنقاذ، حيث يَمنح الأمر بكامله عمقاً حقيقياً، ليس فقط عملية وجنود بحرية وشخصاً يُعطي أمراً بالهجوم، كعادة أفلام «الأكشن»، ولكن الأهم هو شخصيات صرنا نهتم بأمرها فعلاً.
وفي كل هذا يكون «توم هانكس» هو زَاد الفيلم، أكثر ما يربطنا بالشخصية، ويُشعرنا بعاديتها وهشاشتها ورغبتها المُلِحَّة في الخروج من كل هذا والعودة إلى البيت، «هانكس» يعود أخيراً في فيلمٍ كبير وواحد من أهم وأفضل أدوراه بعد سنوات طويلة من الترنُّح.
في المُجمل، «كابتن فيليبس» فيلم هام من أفلام 2013، يعاني من بعض العادية والسينمائية التي لا تناسب القصة في ساعته الأولى، ولكنه يسير نَحو ثُقل شديد في نصفه الثاني، ليجعلك تمر بتجربة تستحق أن تُعاش، هو علامة جديدة في مسيرة رائعة للمخرج «بول جرينجراس»، وعودة كبيرة لـ«توم هانكس» في أحد أدواره العظيمة.