السينما فن شامل، أخذ أروع ما فى كل الفنون وقام بمزجها معًا فى وسيطٍ ساحر أثبت أنه جاء ليبقى. وعلى مدار أكثر من مائة عام قدم لنا أساطين هذا الفن ألافًا من المشاهد واللحظات التي قامت بإعادة تشكيل وجداننا الجمعي... قطعًا أستاذية ألهبت خيال الملايين، وانتقلت من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، لم يقف أمامها حاجز لغة، أو عرق، أو دين.
وكأي "أسطى" خبير، يتمتع كل مخرج سينمائي - ذو موهبة حقيقية - بأسلوب فريد يميِّزه عن الباقين، نوع خاص جدًا من التوقيع يذيِّل به كل أعماله، ويكرِّره المرة تلو الآخرى بحسٍ متفاني في التجويد، حتى يتحول في النهاية إلى بصمة حقيقية متى شاهدتها تعرف على الفور إنك أمام نتاج صنع الرجل.
اليوم أشارك معك 6 من أشهر تلك التوقيعات... انضم إليَّ لنستمتع سويًا بأستاذيِّة هؤلاء العباقرة الذين صنعوا المجد.
أصوات أرنوفسكي
عندما شاهدت فيلم المصارع The Wrestler أول مرة في العام 2008، لم يكن ما لفت نظري وقتها - من ضمن تفاصيل الفيلم المثيرة - الإخراج أو التمثيل أو السيناريو، وإنما الأصوات... الأصوات الخفية اللعوب التي تُلاحظ بالكاد، والتي رغم هذا تَدِب حياة كاملة في كل مشهد بشكلٍ آخاذ. كنت استمع إلى المصارع العجوز راندي ذا رام أكثر مما أشاهده... أستمع إليه وهو مصاب يتحرك ببطئ، يعيد إحكام رباط ذراعه، يخبط على عضديه، يأخذ الدواء، يطرقع فقرات ظهره... كل تلك الأصوات الشقيَّة شكَّلت في مجموعها الروح النابضة للفيلم.
وقتها لم أربط بين المصارع وباقي أعمال آرنوفسكي، لأكتشف في النهاية كم كنت ساذجًا... وكيف أن الاستخدام الفريد للأصوات هو البصمة الخفية العظيمة التي لم ألتفت إليها من قبل، والتي يستخدمها أرنوفسكي كتوقيع فريد في جميع أعماله.
link]
منظور كوبريك
13 فيلم فقط لا غير هم كل رصيد هذا العبقري الذي لا يجهله أحد... ستانلي "فاكينج" كوبريك. 13 فيلم استطاع بهم الرجل اعتلاء عرش السينما وتخليد اسمه إلى الأبد. كوبريك في الأساس كان مصورًا فوتوغرافيًا قبل احترافه العمل في السينما، ولهذا أصبح مصور سينمائي بارع إلى أقصى حد، ربما هو الأبرع على الإطلاق. كل المخرجون ذوي الخلفيَّة الفوتوغرافيَّة مميزين دائمًا.
الآن، ماذا عن البصمة التي تتكررت في الأفلام الثلاثة عشر؟ حسنًا، إنها منظور نقطة التلاشي يا سادة... الكادر الدائم الذي ستقابله في معظم أعمال الرجل. طبقًا لقواعد هذا المنظور تلتقي كل الخطوط المتوازية في الكادر - أو في لوحة مثلاً - عند نقطة معينة على خط الأفق، وتلتقي كل الخطوط المائلة عند نقطة تلاشي هذا الخط، أما الخطوط العمودية والأفقية فتظل على حلها دون تغيير، فقط تتقلص في الحجم كلما اقتربت من نقطة التلاشي.
يعشق كوبريك هذا المنظور لأنه يسمح بوضع الموجودات في مكانها الأمثل داخل اللقطة، ولما يعطيه من عمق طويل للكادر، أيضًا لإظهاره البعد الثالث لكل الموجودات سواء كنت تنظر إليها من الأمام أو من الجوانب أو من الأعلى. منظور النقطة يعد من أكثر أساليب التصوير رواجًا في التصوير ثلاثي الأبعاد 3D أيضًا.. فهو يسمح بوجود خلفية بعيدة، وأرض متوسطة، ومقدمة كادر شبه منفصلين عن بعض، وهو ما يناسب للغاية العرض بتقنية الـ 3D، حيث تتقدم الأشياء سريعًا من الخلف للأمام لتقفز في وجه المشاهد.
في هذا الفيديو نشاهد معظم لقطات منظور نقطة التلاشي التي ابتكرها كوبريك، في مونتاج هو الأروع.
وجهة نظر أندرسون
ويس أندرسون صانع أفلام ذو مذاق خاص جدًا يهيم به الكثيرون. قد لا يستسيغه البعض - وأنا واحد منهم -، لكن رغم هذا لا أحد يستطيع أن ينكر للحظة تفرُّده عن أبناء جيله. هو قصاص من طراز خاص للغاية، يسرد بالألوان أكثر من أي شئٌ آخر، وإلى جانب هذا هو من المخرجين القلائل أصحاب الكادرات الغرائبية... أكثر تكوينات الرجل شهرة هو منظور الشخص الأول، أو لقطة وجهة النظر، الذي يأتي رأسًا من عالم ألعاب الفيديو.
منظور الشخص الأول مشهور للغاية بين مستخدمي الألعاب... وفيه لا يرى اللاعب الشخصية التي يتحكم بها، أو لا يرى المركبة التي يقودها في ألعاب السيارات، حيث يكون هو إما الشخص أو المركبة ذاتها، وهذا يعني أن اللاعب يرى كل شئ من خلال عيون الشخصية التي يمثِّلها.. الأمر مزعج للبعض، لكنه مسلي للغاية لآخرون، وبالتأكيد ويس أندرسون واحدًا من هؤلاء.
يستخدم ويس أندرسون لقطة وجهة النظر من أعلى غالبًا، وهو لا يملّ من تكرارها في جميع أفلامه.
[https://www.youtube.com/watch?v=wx-dG\_fsDZE]
أضواء سبيلبرج
برصيد سينمائي تجاوز الثلاثين فيلمًا طيلة أربعين عام إخراج، ومن بين كل مخرجي جيله والأجيال السابقة، يحتل سبيلبرج القطعة الأكبر من قلوب وأحلام الجماهير... هذا اليهودي العجوز هو من جعل من الدينوصورات نجوم شباك، ومن الكائنات الفضائية حديث رجل الشارع، ومن الخيال العلمي فنًا له ثقله.
ستيفن سبيلبرج يستخدم العديد من التيمات والأساليب الخاصة، هذه التيمات تتكرر في معظم أفلامه بشكل يصعب عدم ملاحظته. أشهرها طرًّا هو استخدامه لشعاع الضوء المباشر الذي يُسلِّطه من الخلف. يعشق سبيلبرج أن يصنع هالة من الضوء حول أبطاله، وهو يفعل هذا بأبسط الطرق ودون "فزلكة" من أي نوع.. فقط يُسلِّط كشاف من النور الباهر من وراء الممثلين دون أن يظهرهم في حالة silhouette كاملة، وهذا لأنه يستخدم في ذات الوقت عاكس أو شعاع ضوء أمامي... ليخرج التأثير النهائي دراماتيكي بشكل كبير.
سبيلبرج من أكثر المخرجين إيمانًا بفكرة أنك ممكن أن تسرد أي قصة من خلال الضوء.. فقط قم بوضع مصباحك فوق رأس الممثل كي تحصل على قصة حب، إعكس وضع مصباحك وقم بتسليطه من أسفل لتحصل على فيلم رعب... لكن من فضلك لا تقم بتوجيه مصباحك من خلف الممثل مع إضاءة وجهه، فليس هناك سوى سبيلبرج من يفعل هذا.
link]
ظهورات هيتشكوك
ربما ليس هو الوحيد الذي يفعلها، لكنه الأشهر دون شك... مخرجون عديدون قاموا بظهورات خاطفة في أفلامهم، لكن ليس منهم من استطاع أن يقحم نفسه في أكثر البيئات محدودية وأصعب المواقف طرًا دون اللجوء إلى الابتذال. هل تتخيل أن يُظهر هيتشكوك نفسه في فيلم ليس به سوى 9 ممثلين على ظهر قارب نجاة وسط المحيط؟ حسنًا، هذا ما ستشاهده في الفيديو التالي الذي يجمع كل ظهورات الرجل في كل أفلامه.
الطريف في الأمر أن هيتشكوك في أفلامه الأخيرة، بعد أن لاحظ أن الجمهور كان ينصرف عن الفيلم نفسه بالبحث عن المشهد الذي سيظهر فيه، كان يضع تنويهًا في دور العرض أنه سيظهر في اللقطة المعينة في الدقيقة كذا، حتى يتوقف الجمهور عن البحث... لهذه الدرجة كان هيتشكوك Superstar حقيقي... ربما حتى أكثر من بطلاته الشقروات أنفسهن.
أول ظهورات ألفريد هيتشكوك كان في فيلم بعنوان The Lodger أخرجه عام 1927، وكان يقوم بشخصية صحفي يعطي ظهره للكاميرا، أما الظهور الأخير فكان في عام 1976 في فيلم Family Plot حيث ظهر هيتشكوك فيه كظلّ فقط.
زوايا تارنتينو
تارنتينو يجيد صناعة السينما حقًا.. ويعشق حتى النخاع الأفلام الرخيصة المبتذلة المليئة بأوغاد يقتلون بعضهم البعض مع كم وافر جدًا من الدماء، وهو يصنع كل أفلامه كتحيَّة عظمى لتلك الأفلام، مستخدمًا كل ما في جعبته من عنف، عري، دماء، تقطيع الأوصال، ونكات بذيئة... ضف على هذا نمط السبعينات في الإخراج والتصوير (هل تعرف مخرج آخر مازال يستخدم الزووم إن السريع والزووم أوت في أفلامه؟).
أكثر ما يميز الرجل أنه مخرج قديم الطراز.. مخرج تعرف يقينًا أنه لن يصنع فيلمًا أبدًا بتقنية الـ 3D السخيفة، مخرج يفضل المؤثرات الفيزيائية الحية، ويستخدمها بغزارة في أفلامه... مخرج لا يطيق السينما الرقمية، وقد يعتزل بسببها الإخراج.. وهو لهذا كله يجيد اللعب بالكاميرا حقًا، وقادر على خلق رؤى جديدة تمامًا من زوايا كلاسيكيَّة.
التسديد منخفض الزاوية هو أشهر أساليب تارنتينو في اللعب، وفيه يُكوِّن الرجل لقطته بترك الكاميرا في وضع منخفض مائلة على محورها الرأسي لأعلى، وهو ما يعرف بلقطة التجبُّر أو الـ Low Angle Shot.
في أي مكان تحت مستوى العين البشرية، ستجد كاميرا تارنتينو تنظر دائمًا لأعلى.