[عذراً : هذا المقال ربما يحتوي على حرق أحداث]
القصة التوراتية تحكي عن عابدٍ زاهد وقانع ونَزيه اسمه أيوب، اندس الشيطان بين ملائكة الله ذات مرة وسأل الرَّب «هل يعبدك أيوب مجاناً؟»، كانت حُجة الشيطان قوية.. فقد أعطيته المال والأبناء والجاه، فلماذا لا يتقي ويعبد؟ الاختبار الحقيقي هو عن الطريقة التي سيتذكَّرك بها إن أخذت منه كل هذا، فأجاب الرب «هو ذا، كل ما له في يَدَك»، افعل به ما شِئت، ليظل السؤال طوال السِّفر المقدس: إلى أي مدى سيحتمل أيُّوب؟
الفيلم الأول للمخرج الكندي " دينيس فيلنوف" في هوليوود، Prisoners، يَدور تحديداً حول تلك الفكرة، الدرجة التي يمكن أن يتحول فيها البشر، بفعل الضغط والشقاء، لأناسٍ سيئين، يَسرد حكاية عائلة «كيلر دوفر» السعيدة، التي تتغيَّر حياتها تماماً بعد اختفاء ابنتهم الصغيرة «جريس»، ومع وجود مُشتبه به تطلق الشرطة سراحه لعدم وجود أدلة كافية، ويقين «دوفر» أن ذلك الرجل هو الشخص المختطِف ، يصبح السؤال: إلى أي مدى قد يذهب من أجل إعادة ابنته في سبعة أيام؟
التفاصيل الدينية، المتعلقة بالاختبار والشقاء، في القصة لا تبارح الفيلم منذ مشهده الافتتاحي، الذي يتلو فيه «دوفر» صلوات من الكتاب المقدس: "لتكن مشيئتك في الأرض، كما في السماء"، قبل أن يخبر ابنه بالحكمة التي علمها جده إياه "عندما يَفنى العالم، يصبح الحائل الوحيد الباقي لك هو تصرفك أنت"، ذلك البعد الديني/الروحي.. يَنسلخ بالتدريج عن شخصية “دوفر" بعد اختفاء ابنته، ورؤيته لخاطفها –تبعاً ليقينه- حراً، يبدأ التحول التدريجي، الذي يتتبعه "فيلنوف" عبر سبعة أيام –وهو رقم ذو بعد واضح في الموروث الديني- لكيفية تحول العبد الزاهد والقانع والنزيه إلى مُختطف ومُعَذّب وسكير يَقبل أن يخسر كل شيء، بما فيها نَفسه، في مقابل عودة ابنته.
الشيء العظيم فعلاً في الفيلم، أنه لا يتابع ذلك بأي قدر من الحكم الأخلاقي، لا يسرد عمله بطريقة "انظروا كيف فعل الشقاء بدوفر؟!"، بقدر ما يعايش هذا التغير التدريجي، يبدو هنا أن هناك مَعنى حقيقي لساعتين ونصف استغرقهم "فيلنوف" في سردِ حكاية تبدو عادية، لأن المعنى ليس الحكاية ولكن نفوس أبطالها، تغيرات العائلة، هناك قيمة هنا للوقت وللأيام وللتحول التدريجي الذي يحدث في نفسِ "دوفر"، وتبدو خياراته مفهومة لنا طوال الوقت، مفهومة حتى لجيرانه الذين اختطفت ابنتهم أيضاً.. رفضوا فعلته في البداية ثم حين وضعهم في الاختبار: "اخرج المشتبة به إن أردت"، تبدو الأمور أصعب كثيراً مما قد نَظن، فيأخذوا نفس خياره، تقول نانسي بيرتش لزوجها "تذكر ابنتنا"، فيتذكرها، لأن القسوة والحِمل والضغوطات قد تجبر الناس على فعلِ أشياء فظيعة، ليست عادية بأي حال.
[عذراً : هذا الجزء ربما يحتوي على حرق أحداث]
في كل ذلك كان فيلماً عَظيماً، المشكلة الحقيقية تبدأ في ثلثه الأخير، الجانب البوليسي من الحَبكة، ومحاولة خلق "تويست" في النهاية ليحل مسألة لم تكن موضع الاهتمام منذ البداية، الخيوط هنا تتفرَّق وتتجه نحو الميلودرامية: طفل يعود لعائلته بعد 26 عاماً من الغياب! مشتبه غريب الأطوار يُصبح ضحية، عصابة من زوج وزوجته من أجل "محاربة الرب"، بدا الفيلم في سطحية وتشتت كبيرين عندما اتجه نحو محاولة صنع "نهاية مفاجئة وهوليوودية"، حتى مع كونها تتسق مع رؤية الفيلم وتطرح السؤال بشكلٍ مُباشر: "نحارب الرب، نفقد الناس إيمانهم ونرى كيف يتحولوا لشياطين مثلك؟"، إلا ان ذلك كان مزعجاً وسطحياً لدرجة كبيرة، مع الكثير من الفجوات غير المُبررة.
ورغم ذلك يظل فيلماً جيداً، حتى من ناحية الإثارة وبعيداً عن تساؤله الأعمق بشأن "تحمُّل أيوب"، "فيلنوف" مخرج كبير فعلاً، بعد ثلاثة أعوام من فيلمه الكندي الذي ترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي Incendiesيثبت من جديد أن آمالاً كبيرة يمكن أن تعقد عليه مستقبلاً، نَفس رائع جداً في إخراج الفيلم، معتمداً على صورة مُدهشة كالعادة من المصور روجر ديكنز، وإيقاع شديد الاتزان من المونتير الأوسكار جويل كوكس، بالإضافة لحفنة من الأداءات الرائعة من قبل ممثليه، تحديداً " فيولا ديفز"، " جاك جيلينهال"، وبالطبع " هيو جاكمان" الذي يتجه بمسيرته، خطوة بخطوة، نحو أن تصبح أكثر ثقلاً.
عقب انتهاء الفيلم كنت مدركاً أنه كان من الممكن أن يتحول لواحد من أفضل الأفلام الأمريكية هذا العام، لولا "التويست" الختامي الذي أفسد الكثير، ولكنه مع ذلك يبقى فيلماً جيداً يستحق المشاهدة، ممتعاً كفيلم إثارة عن حادثة اختطاف، وعميقاً جداً في تناوله لسؤال الشيطان الأبدي: إلى أي مدى سيتحمل البشر الشقاء قبل أن يقومون بأشياءٍ فظيعة ويتحولون لأناسٍ سيئين؟!