في مُفتتح الفيلم، يقول بطله «جيمس هانت» أن هناك 2 من أصل 25 متسابق لسباق السيارات «فورميلا وان» يلقيان حتفهما بشكلٍ سنوي، بينما يقبل «نيكي لاودا»، البطل الآخر، بنسبة الـ20% في أن يفقد حياته في كل مرة يذهب فيها للسباق ويرى أن نسبة أكثر من هذه لن تكون مقبولة، والسؤال في تلك الحالة يكون: ما الذي يدفع الرجال فعلاً للرهانِ على حياتهم عشرات المرَّات كل عام في كل سباق جديد؟ إنه أمر يتجاوز المجد أو المال أو طلب الشهرة، السبب الحقيقي لرهانٍ مثل هذا هو الشغف.
يَحكي فيلم Rushالقصة الحقيقية للتنافس الشرس الذي جمع «هانت» و«لاودا» في سباق «فورميلا وان» خلال منتصف السبعينات، ويتتبع الحكاية من بدايتها، وصولاً لهذا الموسم التاريخي عام 1976 الذي ظل فيه الصراع على البطولة مستمراً من بلدٍ إلى أخرى، ومن مضمارِ سباق إلى آخر، عبر عدة شهور وخلال العديد من التحولات الدرامية في حياتهما وعلاقتهما، وذلك حتى النَّفَس والثانية الأخيرة.
أجمل ما في هذا الفيلم هو الطريقة التي يَحكي بيها السيناريست العبقري " بيتر مورجان" حكايته، يَفعل ما فعله من قبل في فيلميه Frost/Nixon و The Damned United، وقبلها في نصه العظيم The Queen، يأخذ حكاية ذات أصل تاريخي، ويقترب بشدة من الصراع بين بطليها، ومن خلال الملحمية في هذا الصراع، لاختلاف وجهات النظر السياسية في بعض المرات، أو لكونه سباقاً رياضياً مباشراً في هذا الفيلم، يُبقي الوَتَر الدرامي مشدوداً حتى آخر نَفس، ويصنع بعض من المشاهد الحوارية واللحظات السينمائية التي لا تنسى.
منذ البداية يبدو الفارق بين «لاودا» و«هانت» واضحاً، إخلاص الأول لما يفعله، جديته الشديدة، تدريبه المستمر، إنه شخص لا يوجد في حياته سوى عمله، على الناحيةِ الأخرى يبدو «هانت» كشخصٍ يرغب في أن يَسعد بحياته، بالحفلات والأصدقاء والسيدات اللاتي أحببهن، ولأن السيارات ضمن التفاصيل التي تسعده فهو يمارسها بشغفٍ، هذا الاختلاف الواضح يتبلور أكثر مع كونهما أكثر الأفراد موهبة في السباق، ليبدأ التحدي بينهما.
الأجمل من ذلك ربما هو الطريقة التي يصيران بها صديقين بشكل غير منطوق، وكيف يدفع هذا الصراع شخوصهما نحو الأفضل، يدفع «لاودا» لأن يخرج بعيداً عن دائرة أمانه ويصبح قابلاً للحب والتعلق بامرأة، ولاحقاً للحفاظِ على حياته كاملة ومنحه عزيمة استثنائية لتجاوز المحنة العاصفة التي مر بها، ويدفع «هانت» نحو جدية أكبر في عمله ورغبة مُلحة في أن يكون أفضل فقط ليتفوق على مُنافسه، «لقد دفعتني إلى أقصى حد ممكن، وكان هذا شعوراً رائعاً»، أمر مشابه لأن تحكي حكاية عن تنافس «ميسي» و«رونالدو» في كرة القدم حالياً، هي ذات الحكاية عن الرجال والشغف والرغبة في التفوق والأفضلية.
كل هذا التداخل واللهاث الذي جرى على مدى ساعة ونصف، يتبلور في مشهد ختامي عَظيم، يبدو على النسق الذي يحبه «مورجان» في أفلامه، يَقف الشخصان في مواجهة بعضهما، ويُبيحان بتاريخٍ كامل، الكثير من الاحترام والمَحَبة المخفية تحت حدة ومَلحمية التنافس، مشهد استثنائي، منحه صوت «نيكي لاودا» الحقيقية قيمة عَظيمة، ومنحته الطريقة التي قام بها المخرج « رون هاورد» بتقطيعه والمشاهد الوثائقية التي عَشَّقها فيه حساً شاعرياً مميزاً للغاية، ليكمل عمله الإخراجي الجيد خلال الفيلم كاملاً.
«رون هاورد» ليس مخرجاً عظيماً، ولكنه جيد للغاية في حكي حكايات كهذه، الحكايات الحقيقية ذات الحِدّة الدرامية والنفس الملحمي، شيء يظهر في أفلامه الأهم Apollo 13 أو A Beautiful Mind أو Cinderella Man أو Frost/Nixon، وحالياً ينضم لهم Rush بكل تأكيد.
«هاورد»، الذي لم يكن يعرف شيئاً عن سباق الفورميلا قبل بدء التحضير للفيلم، كان رائعاً في تقديمه للعالم، في ملامسته للشغف، في الإيقاع الذي بنى به كل شيء منذ الثانية الأولى، والمناسب لعملٍ يدور بشكلٍ أو بآخر حول السرعة، اختيار الكتابة على الشاشة، أو الاستخدام الذكي للناريشن في البداية والختام، أو استخدام اللقطات الحقيقية للسباقات في تلفزيوناتٍ قريبة، أو اللقطات الوثائقية عند النهاية، كلها أمور رفعت كثيراً من قيمة الفيلم، وأظهرت الجوانب الأكثر إيجابية وأهمية في نَص «بيتر مورجان».
الأهم من كل هذا هو قيادة «هاورد» لبطلي الفيلم في أداءاتٍ كبيرة كهذه، " كريس هيسمورث" في أول دور حقيقي في مسيرته ربما، بعيداً عن « ثور» وعالم «مارفيل» أو « سنو وايت» وقناصها، يشكل صورة رائعة جداً لـ«هانت» هو بطل محبوب وخفيف وقريب للقلب، على الناحية الأخرى يقدم الممثل الألماني « دانيال بروهل» أفضل أداءات الفيلم وواحد من أفضل أداءات العام بشكلٍ عام، حاد وعملي وشغوف، مُعتز جداً بنفسه، يعبر عن محبته بتحجُّر، ويجبرك على محبته واحترامه، يشرق جداً في العديد من اللحظات، كذلك المشهد الذي يسأله فيه الصحفي عن تشوه وجهه، أو النظرات العظيمة بينه وبين زوجته عندما يتوقف في السباق الأخير، أو ملامحه وهو يستمع للنتائج في الراديو، «بروهل» بعد عشر سنوات من فيلمه الشهير Good Bye Lenin يبدو ناضجاً فعلاً، وعلى الأغلب سينال ترشيحه الأول للأوسكار في فئة أفضل ممثل مساعد.
مجملاً، هذا فيلم جيد للغاية لهذا العام، واحد من أفلام هوليوود الجميلة والممتعة، الرفاهية والقيمة الفنية الحقيقية في ذات الوقت، من الرائع أن يكون اجتماع «مورجان» و«هاورد» بعد خمس سنوات من فيلمهما الكبير Frost/Nixon بعملٍ مثل هذا، ومن الرائع جداً أن يقدم فيلماً رياضياً يلامس فكرة «الشغف» بهذا القدر، أداءات ممتازة، لحظات سينمائية كبيرة، هفوات لا تقلل من قيمته الإجمالية كواحد من أفلام 2013 المهمة، ولا أدل على ذلك من تعليق "نيكي لاودا" الحقيقي عليه حين شاهده: "كان أمراً رائعاً، قلت يا إلهي كل شيء حقيقي للغاية، هذا أنا وهذا هو هانت، الشيء الحزين الوحيد أنه ليس هنا، تمنتيت لو شاهد الفيلم معي، كان سيستمتع به كثيراً".