عندما نتأمل حياة أبرز الفنانين الذين قدموا أدوار الشر على الشاشة، نجد أنهم في حياتهم الخاصة كانوا أبعد ما يكون عما قدموه على الشاشة، وأنهم كانوا يتصفون بطيبة القلب والرقة، ورغم ذلك كانوا يتقنون أدوار الشر بطريقة تجعل المشاهد يصدقهم ويكرههم بالفعل، ومن أبرز هؤلاء الفنانين نجمة إبراهيم، فما إن نذكر اسمها نسترجع على الفور شخصية ريا السفاحة بملامحها القاسية وعينيها التي تصيبك بالفزع، وبالإضافة لدور ريا اشتهرت نجمة إبراهيم بدور المرأة قاسية القلب التي لا تعرف الرحمة، وقد أجادت في هذه الأدوار بشدة، لدرجة أن الجمهور كرهها بالفعل، وكما قالت سابقا أنها كانت تسمع بنفسها الشتائم التي تنصب عليها كلما حضرت عرض أحد أفلامها، ورغم ذلك كانت "ملكة الرعب" كما أُطلق عليها، من أطيب الشخصيات في الحياة، وبشهادة المقربين منها والمخرجين الذين تعاملت معهم، فقد كانت شخصيتها الحقيقية مناقضة تمامًا لما تقدمه على الشاشة.
وفي ذكرى ميلادها، نتذكر قصة حياة أطيب شريرة، صاحبة أشهر لازمة في السينما "قطيعة محدش بياكلها بالساهل".
مدرسة الليسيه
ولدت نجمة إبراهيم لأسرة يهودية مصرية عام 1914، وعلى الرغم من نشأتها في أسرة متوسطة المستوى، إلا أن أسرتها أدخلتها مدرسة الليسيه، فأتقنت العربية والفرنسية حديثًا وكتابًة، ولكنها لم تستمر طويلًا في المدرسة، فبسبب حبها للتمثيل والغناء، هجرت الدراسة، وقررت العمل بالفن مثل شقيقتها الكبرى "سيرينا إبراهيم" التي كانت من رائدات المسرح في ذلك الوقت.
أم كلثوم
كان صوت نجمة إبراهيم جواز مرورها لعالم الفن، حيث كانت تتمتع بصوت عذب، وكان جميع من حولها يشيرون إلى صوتها الجميل ويمدحون أداءها، وقد تصورت في البداية أنها يمكن أن تنافس أم كلثوم و منيرة المهدية.
وكان أول ظهورها على المسرح مع فرقة الريحاني، حيث انضمت للفرقة أثناء رحلتها إلى الإسكندرية، وكانت تغني وترقص وتلقي المونولوجات، كما التحقت بفرقة فاطمة رشدي أثناء رحلتها للعراق، واشتركت في الغناء في مسرحيتي "شهرزاد"، "العشرة الطيبة" للموسيقار الراحل سيد درويش، وعملت مع بديعة مصابني ومثلت مع بشارة واكيمفي العديد من المسرحيات.
ورغم نجاحها في المسرح، إلا أنها تركته لفترة عندما حدث ركود في المجال الفني بعد الأزمة الاقتصادية عام 1933، والتحقت بوظيفة كتابية في مجلة "اللطائف المصورة"، ولكنها لم تستطع الابتعاد طويلًا، فعندما كونت الدولة الفرقة القومية برئاسة الشاعر خليل مطران عام 1935 انضمت لها، وقامت بتمثيل عدة أدوار رئيسية في مسرحيات الفرقة، ومن أبرز المسرحيات التي شاركت فيها في تلك الفترة "الملك لير"، "الأستاذ كلينوف"، "الجريمة والعقاب"، "الأب ليونارد"، "كلنا كده"، "الست هدى"، "المليونير"، و"اللعب بالنار".
اليتيمتين
النجاح في المسرح كان جواز مرور نجمة إبراهيم للسينما، وكانت بدايتها في أدوار بسيطة في أفلام عايدةللمخرج أحمد بدرخانعام 1942، رابحةمع المخرج نيازي مصطفى عام 1943، عنتر وعبلة للمخرج صلاح أبو سيف عام 1945، لم تلفت نجمة إبراهيم الأنظار في هذه الأفلام، ثم جاءت نقطة التحول في حياتها عندما التقى بها المخرج حسن الإمام، ورشحها للمشاركة في فيلمه الجديد اليتيمتين مع فاتن حمامة وثريا فخري وفاخر فاخر، حيث قامت بدور العجوز المتسولة التي تقوم بتسريح الصبية، وإدارة وكر للأعمال الإجرامية، واستطاعت بعينيها أن تصيب الجمهور بالفزع، وكان لها جملة شهيرة في الفيلم "حتى أنت يا أعرج بتحب"، حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، ولفت الأنظار لقدرات نجمة إبراهيم التمثيلية الرائعة.
ملكة الشر
وإذا كان فيلم اليتيمتين استطاع إظهار موهبتها في أدوار الشر، فإن فيلم أنا الماضي مع زكي رستم وفاتن حمامة وإخراج عز الدين ذو الفقار أثبت موهبتها في هذا المجال، حيث أدت شخصية مركبة وشديدة القسوة، بعدها قدمت دورًا شريرًا أيضًا في فيلم ليلة غرام للمخرج أحمد بدرخان، حيث جسدت دور المديرة القاسية التي تدير أحد الملاجىء، بعدها اختارها المخرج صلاح أبو سيف لتقدم أهم أدوارها على الإطلاق، وهو دور ريا في فيلم ريا وسكينة، نجحت نجمة إبراهيم في تجسيد هذا الدور ببراعة شديدة، خاصة مع ملامحها الحادة ونظراتها القاسية والتي ساعدتها على إتقان الدور، وقد وصلت درجة نجاحها في الدور أن الكثير من المشاهدات أغمى عليهن عند مشاهدة الفيلم فى السينمات خوفًا ورعبًا، وقد التصق بها اسم ريا، وأصبح الجمهور يناديها بهذا الاسم، وقد حاولت نجمة إبراهيم التي لُقبت بعد هذا الفيلم بملكة الرعب أن تدافع عن نفسها، وتثبت أنها ليست شخصية شريرة في الواقع، فكتبت مقالًا في مجلة "الكواكب" عام 1953 تحت عنوان "ارتعد خوفًا من ريا الحقيقية" قالت فيه " لقد تعود الناس أن يروني على الشاشة شريرة تحالف الشيطان أو قاتلة محترفة الإجرام أو قاسية القلب لا تعرف الرحمة سبيلًا إلى قلبها، وكل هذا مجرد أدوات تمثيلية لا أكثر، أما حياتي الخاصة فشىء آخر"، كما دافع المخرج صلاح أبو سيف عن الفنانة نجمة إبراهيم، فقال في حوار سابق " إن الشر الذي كانت تقدمه هذه الفنانة نبع من كرهها له، ومن طيبة قلبها، ومن وعيها بأهمية الدور الإنساني للفنان في تجسيد الشر بصورة تظهر مدى قبحه".
سر السفاحة ريا
حاولت نجمة إبراهيم استغلال نجاح شخصية ريا، فكونت فرقة مسرحية باسمها، وقدمت مسرحية "سر السفاحة ريا" من تأليف وإخراج زوجها الفنان عباس يونس، كما قدمت شخصية ريا مرة آخرى في السينما في فيلم " إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة"، وحصرها المخرجون بعد ذلك في نمط واحد من الأدوار، وهو دور المرأة قاسية القلب أو الزوجة المسيطرة، ومن الأفلام التي نذكرها لها جعلوني مجرمًا، والذي جسدت فيه شخصية "دواهي" التي تتزعم عصابة من الأطفال للسرقة والنهب، وفيلم الحرمان مع عماد حمدي و فيروز، والتي قامت فيها بدور بهية السيدة القاسية التي عذبت فيروز، ومن المشاهد التي لا تنسى في هذا الفيلم، والتي جعلت الجمهور يكره نجمة إبراهيم بشكل كبير، عندما قامت بقص شعر فيروز بقسوة بحجة أن ذلك من مصلحتها، وفي فيلم الجريمة والعقاب أدت شخصية "أم هلال" المرابية راهنة الذهب، وفيلم رنة خلخال جسدت دور الداية الشريرة التي تبتز زبائنها، أما في فيلم الليالي الدافئة لعبت دور الأم قاسية القلب التي تتمسك بالتقاليد.
راقية إبراهيم
يعتقد الكثيرون أن نجمة إبراهيم شقيقة الممثلة راقية إبراهيم التي قدمت عدة أفلام أهمها رصاصة في القلب مع محمد عبد الوهاب، ولكن هذا غير صحيح، وقد جاء هذا الاعتقاد لأنهما يدينان بالديانة اليهودية، كما أن اسمهما ينتهي بإبراهيم، ولكن الحقيقة أن راقية إبراهيم اسمها الحقيقي راشيل إبراهام ليفي، أما نجمة إبراهيم فهذا هو اسمها الحقيقي.
لم تؤثر ديانة نجمة إبراهيم على نجاحها، بالعكس فقد كانت مصرية أصيلة تشارك الوطن همومه وأفراحه، ومن المواقف الوطنية التي تٌذكر لها أنها خصصت إيراد حفل افتتاح مسرحيتها "سر السفاحة ريا" لتسليح الجيش المصري بعد إعلان جمال عبدالناصر قراره بكسر احتكار السلاح، واستيراد السلاح من دول الكتلة الشرقية بعد رفض الغرب تسليح مصر.
وقد حضر السادات عرض الافتتاح، وبعد انتهاء المسرحية صعد للمسرح وصافح ممثلي الفرقة، ثم رفع يد نجمة تحية لها.
جمال عبدالناصر
على الرغم من نجاح مسرحية سر السفاحة ريا، إلا أن فرقتها المسرحية لم تستمر كثير، ولكنها استمرت في التمثيل سواء على المسرح أو السينما، كما قدمت مسلسلات إذاعية، وشاركت في بعض المسلسلات التلفزيونية منهم الضحية والرحيل. وفي منتصف الستينات بدأ بصرها يضعف، ولكنها كانت تتحامل على نفسها لأنها حينها كانت تمثل على المسرح، وكان زوجها المخرج والمؤلف عباس يونس يساعدها في البروفات، وعندما تعود إلى منزلها تستمع له وهو يقرأ لها الدور حتى تؤديه على المسرح في اليوم التالي، ولكن بعد فترة ازدادت حالتها سوءً، فأمر الرئيس جمال عبدالناصر بعلاجها على نفقة الدولة، وتقرر سفرها إلى إسبانيا عام 1965 ليعالجها كبار جراحي العيون في العالم، وبالفعل أجرت الجراحة وعادت في منتهى السعادة، وقالت في حوار صحفي بعد عودتها " كنت أخشى أن يضيع النور من عيني في الوقت الذي يشع فيه النور أمام مستقبل مسرح بلادي، فأنا أحس أن الدور أمامي طويل في هذه النهضة المسرحية، وأشعر الآن بمدى العرفان لرئيسنا العظيم الذي شمل الفنان برعايته".
لم تكتمل سعادة نجمة إبراهيم، حيث أصيبت بعد ذلك بأمراض عدة، وكان أصعبها إصابتها بالشلل، مما أجبرها على اعتزال المسرح والتمثيل بشكل عام، وظلت 13 سنة تعاني من أمراضها حتى توفيت في عام 1979.
هل أسلمت؟
قيل كثيرًا أن نجمة إبراهيم اعتنقت الإسلام في بداية الثلاثينات، عندما كانت على وشك الزواج من أحد العاملين في إدارة صحيفة اللطائف، ولكن هذا الأمر غير مؤكد، حيث تقول روايات آخرى أنها ظلت على ديانتها اليهودية إلى حين وفاتها، فلا توجد رواية قاطعة بشأن هذا الأمر، ولكن أيا كانت ديانتها، فالأمر المؤكد أنها كانت ممثلة بارعة وشخصية وطنية أحبت بلدها، فاستحقت المكانة التي وصلت إليها.