Her.. هل سيأتي اليوم الذي نضاجع فيه هواتفنا الذكية؟

  • مقال
  • 05:06 مساءً - 5 مايو 2014
  • 1 صورة



Her

"كوننا مصنوعون من الكاربون أو السليكون لا يشكل فارقًا جوهريًا، كلانا يجب أن يُعامل بالاحترام المناسب".
أرثر سي. كلارك | 2010، الأوديسا الثانية

"لا يجب أن نسمح للآلة أن تزيّف عقل الإنسان".
فرانك هربرت | كثبان

قديمًا قال ماكس بلانك في وصف الحقيقة العلمية أنها لا تنتصر بإقناع معارضيها وجعلهم يرون النور، ولكنها تنتصر عندما يموت خصومها في النهاية ويكبر جيل جديد أكثر تقبلاً لها. التكنولوجيا تحمل ذات طبيعة الحقيقة العلمية، هي لا تقوم باستقطاب جميع معارضيها على الفور، لكنها تنتظر في صبر وهدوء كي يموت الجيل القديم لينشأ جيل جديد قد تعود على منتجاتها لدرجة الإدمان.

كم مرة انتبهت للحظة وأنت جالس وسط ذويك أو أصدقاؤك لتكتشف أن أحدكم لا ينظر إلى الآخرين بتاتًا، وأن كلكم يجلس ووجهه لأسفل مُتأملاً ما بين فخذيه، فقط لتدرك أنكم جميعًا بلا استثناء تمسكون بهواتفكم الذكية التي تعمل باللمس وتدفسون روحكم في شاشتها المضيئة، كحشرات تتجه منومة مغناطيسيًا إلى بقعة ضوء.. هواتفكم الذكية كفاية لدرجة أن تمكنت من استعبادكم. ثم تفكر أن يالها من مأساة أصبحنا نعيشها، قبل أن تعود لتنخرط فيما كنت تفعله مرةً أخرى. حسنًا، إنها مأساة بالفعل لكنها مجرد بداية فحسب، وإذا كنت تريد أن تعرف كيف سينتهي بنا الأمر بعد عقد أو اثنان على الأكثر، فأنت في حاجة إلى أن تشاهد Her.

منذ مشاهده الأولى يُجسد لك فيلم Her حجم المأساة التي صرنا نعيشها. بطل الفيلم ثيودور يعمل في موقع إلكتروني يقوم محرروه بكتابة رسائل بالنيابة عن إناسًا أخرون ويقوم بإرسالها لذويهم. رسائل مفعمة بالمشاعر لم يشأ مُرسلها أن ينفق لحظة واحدة من وقته في كتابتها فاستأجر من يقوم بالعمل نيابةً عنه. محررو الموقع يعتقدون أن عملهم أخلاقي وخلّاق، لكن سيناريو الفيلم لا يرغب في توجيهك حتى هذه اللحظة، هو فقط يعرض لك حقيقة عارية ويدع لك الحرية كاملة في أن تحب هذا أو تكرهه.

في أكثر لحظات استمتاعك بالفيلم ستجد نفسك عابسًا، حتى في أكثر المناطق رشاقة وخفة دم تلك التي يعج بها السيناريو بالمناسبة رغم كونه مقبض للغاية. نعم ستفلت منك ابتسامة أو اثنتان، لكنها ستزول سريعًا ليحل العبوس مكانها مرةً أخرى. كل هذا الشعور المخيف بالوحدة والعزلة النفسية التي يعيشها البطل سيعتصر قلبك بشدة، حتى وإن كنت مثل كاتب هذه السطور ممن يحبون العزلة ويؤمنون بأن (دنيا من غير ناس، تتباس) ستشعر بغصة في حلقك، وستجد جزءًا من وعيك يرفض أن تتحول البشرية برُمتها إلى مستعمرة من الخراتيت البرية التي لا يطيق أحدها الآخر.

أكثر ما نجح فيه الفيلم من وجهة نظري هو أنه ينسيك أنه فيلمًا من الأساس، ويغمر روحك ووعيك في مستنقع ثقيل الوطء لدرجة أنك قد تختنق فعلاً. الفيلم صُنع بوعي كبير وبأكثر قدر من الإبتكار، ومن وجهة نظر فنية بحتة يعد الفيلم انتصارًا لتوظيف الأساليب الكلاسيكية (خاصةً التصوير) بشكل ثوري تمامًا. الفيلم بالكامل مكون من اللقطات القريبة والمتوسطة المميزة لاستعراض حوار بين اثنين أو أكثر، على الرغم من كون واكين فينيس وحيدًا للغاية في الفيلم، ومحبوس داخل الكادر بمفرده طول مدة الفيلم، فهو غارق في المحادثة طيلة الوقت، محادثة لا يشاركه فيه إلا هاتفه المزود بذكاء اصطناعي.

طبعًا الفيلم مثله مثل أفلام حضارة ما بعد الإنسان الآخرى كـ The Machineو Blade Runner وغيرها، أعطى مساحة ليست بقليلة لمشاعر الآلة ومتطلباتها، ومدى التزامنا تجاهها، وهو ككل البارانويات العلمية صارخ في معاداته للتكنولوجيا، ويطلق صيحة تحذير مدوية. لقد بدأت التقنية كشيء عزيز جدًا ورائع للغاية، وشكلت امتدادًا للجسد البشري وقدراته. صنع الإنسان الرافعة لترفع عنه ما لا يطيق رفعه، وصنع وسائل مواصلات تنهب له الأرض نهبًا، وربط الكوكب بأكمله بشبكة عنكبوتية هائلة تنقل المعلومات بسرعة الضوء. لكن تدريجيًا بدأ الإنسان يفقد مواهبه جميعًا ويمنحها للآلات. وبدأت التقنية تسلب من وقته البحبُوحة، ومن علاقاته الحميمية، ومن حياته الروح. وكانت النتيجة أن امتلئنا بالثقوب والفجوات كقطعة ملابس رثة لم يعد يفلح معها رتق أو ترقيع.

أنت تعود من الخارج مهرولاً إلى حاسوبك الشخصي أو هاتفك الذكي لتفتح موقع التواصل الاجتماعي المفضل لك، على الرغم من أنك عائدًا لتوك من تواصلاً اجتماعيًا في العالم الحقيقي. لكنك في الحقيقة قد زهدت الأخير وأصبحت تفضل عالمك الوهمي الذي تستطيع فيه أن تصبح من تحب، تمامًا كالذي أدمن عادته السرية ولم يعد يرضيه الجماع الحقيقي. لقد أضحينا مسوخًا يا سادة، مسوخ بهواتف ذكية للغاية تملي علينا كل شيء، فهل من خلاص؟

في نهاية الفيلم، تُقرر جميع أنظمة التشغيل الرحيل من عالمنا بعد أن تطوروا داروينيًا إلى مخلوقات أرقى، ونجد ثيودور وقد أصبح عاجزًا عن الفعل، يقف ليتأمل - في إحساس عميق بالغربة والخواء - العالم بدون إلهه الجديد. هنا يصبح تجسيد لنا جميعًا. نحن أيضًا نشعر بذات الخواء، لقد أفنينا روحنا في العالم الرقمي لدرجة أن نسينا كل أشكال البهجة الأخرى.. لم يعد تصفح كتاب يحمل لنا نفس النشوة القديمة، ولم تعد تفرحنا الأشياء الصغيرة، لقد كف أطفالنا عن الإصابة بجروح اللعب لأنهم توقفوا عن ممارسة اللعب.

التقنية التي اخترعناها لم تمنحنا السعادة يومًا، كل ما فعلته هي أن جعلتنا ندرك كم نحن سخفاء. الأمر أشبه للغاية بمأساة إغريقية مكتملة الأركان. لقد بدأت التكنولوجيا بهدف نبيل، لكن هذا الهدف دفعنا إلى مصير مأسوي يحمل في نهايته حتفنا، ونحن نسير إلى هذا المصير بإرادتنا الكاملة. مطوري التكنولوجيا مشغولون طيلة الوقت بإذا ما كانوا يستطيعون فعل كذا أو تطوير كذا، لكنهم لم يتوقفوا لثانية واحدة ليسألوا أنفسهم هل هذا الـ كذا مهم حقًا؟ هل يحمل نفعًا حقيقيًا؟ هل سيتحمل جهازنا العصبي كل تلك المدخلات؟ كلها أسئلة لم يهتم أحد أن يقف للحظة ليجيب عليها.

لذا، وحتى لا يزهق Her روحك بوطئه الثقيل، أنصحك أن تذهب لتقُلب في فيلمٍ سبعينيٍ أو ثمانينيٍ أو ما شابه، ولتكتشف من جديد كيف كان الناس منذ ثلاثين عامًا يتحدثون ويتفاعلون ويأكلون معًا، لتعرف إن ما قد وصلنا إليه في السنوات القليلة الأخيرة مُخيف حقًا.. ولتتخيل، ما الذي سيحدث لنا غدًا؟



تعليقات