بعد خروجي من مشاهدة فيلم ( الفيل الأزرق) في السينما تذكرت على الفور إصرار نجيب محفوظ على عدم كتابته لسيناريو أي رواية من رواياته على الإطلاق رغم قدرته الكاملة على كتابة السيناريو، حيث قام بكتابة السيناريو لأكثر من عشرة أفلام منها ( المنتقم) و( لك يوم يا ظالم) و( ريا وسكينة) مع المخرج صلاح أبو سيف. السبب ببساطة أن نجيب محفوظ كان يدرك جيدا أن الروائي في حاجة إلى عين ثانية تشاهد عمله من جانب مختلف عند كتابته لشاشة السينما، عين تخرج أجمل ما فيه وتعالج أسوأ ما فيه، وتتناوله بوجهة نظر مختلفة عن التي يراه بها.
هذا هو بالضبط ما كان أحمد مراد في حاجة إليه عند تحويل روايته إلى فيلم سينمائي، كاتب سيناريو آخر يقوم بمعالجة الرواية وكتابتها لشاشة السينما، وحينها ربما كان سيضع الأمور في نصابها بدلا من البناء المتهالك الذي خرج عليه الفيلم، بناء زاهي المظهر الخارجي وخاوي الحجرات، بناء هو مزيج عجيب من التخبط السينمائي، والصدف المتعددة التي لا تقيم قصة أو حبكة أو سيناريو، والفذلكة والاستعراض بأساليب سينمائية عفا عليها الزمن أضرت بالفيلم كثيرا جدا، وعدم ارتباط بين محاور الفيلم من أي نوع، وغياب الدافع والهدف لدى بعض شخصيات الفيلم في أفعالهم.
التخبط السينمائي:
أحد أمثلة التخبط السينمائي في الفيلم هو مشهد ذروة العلاقة بين يحيى ولبنى، المفترض – كما فهمت – أنه مشهد رومانسي، مشهد رومانسي تم ذكر كلمة «الموت» فيه ثلاث مرات، ويا ليت الأمر أن أحدهما يموت حبا في الآخر أو شيئا كهذا، إنما هو سيموت مرة وهي ستموت مرتين!
وهناك مشهد آخر مهم جدا في سياق الفيلم خرج في منتهى السذاجة والاستخفاف، وهو المشهد الخاص بزيارة يحيى ولبنى لشقة شريف للبحث عن أدلة أخرى تخص القضية، جريمة بشعة كهذه ما تزال طازجة ومسرح الجريمة غير مغلق، ولو افترضنا أن رجال المباحث قد أنهوا عملهم في المكان، كيف لم يجدوا كتاب الجبرتي (المسروق من المتحف الإسلامي) خلف المكتبة الواضح كالشمس؟! كيف لم يجدوا جوال شريف الذي وجده يحيى وأخذ الصور من عليه بكل سهولة؟! كيف لم يجدوا بطاقة محل الوشم المشتركة صاحبته في ظروف الجريمة؟! كيف لم يجدوا القميص الذي وجده يحيى بكل سهولة في الحمام وعملهم أن يقلبوا شقته رأسا على عقب بحثا عن الأدلة؟!
أيضا هناك أحداث لم يتم تفسير كيفية حدوثها في الفيلم حتى نهايته، مثلا سبب قيام يحيى بالاعتداء على مايا تحت تأثير حبة (الفيل الأزرق)، وكيف علم شريف أن خلاصه من نائل ومن الوشم يكمن في كتاب الجبرتي وقميص المأمون؟ كيف كان نائل يتصل بيحيى من هاتف الأخير إلى هاتف شريف؟ ولماذا كان يرى يحيى عم سيد الذي مات من خمس سنوات رغم أن يحيى لم يكن مريضا ولا يهلوس؟ كيف كان يعلم نائل بكل ما يراه يحيى في هلاوسه؟ ما وصلت إليه أن تفسير كل تلك الأحداث هو أن نائل جن، لكن ستصبح هذه مشكلة أخرى لو أن هذا هو فعلا التفسير الوحيد!
الصدف:
رجوع يحيى لعمله في المستشفى في نفس توقيت جريمة شريف صدفة.
إحضار مايا لحبوب الفيل الأزرق صدفة.
وإحضارها في نفس توقيت جريمة شريف صدفة.
إيجاد يحيى لقميص المأمون صدفة.
معرفة يحيى لحل اللغز من هلاوسه صدفة.
طلاق لبنى من زوجها قرب نهاية القصة صدفة.
كل تلك الصدف بالأعلى أربع منها على الأقل لو لم تحدث واحدة منها لما كان هناك فيلم أصلا، لا وجود للحتمية في أحداث الفيلم، ولا وجود لثقل درامي يقف على أرض ثابتة. لو أخذنا مثلا أول صدفة وهي رجوع يحيى لعمله في المستشفى بعد خمس سنوات من التغيب بدون إذن في نفس التوقيت الذي قام فيه شريف بقتل زوجته بشكل بشع وتحويله لمستشفى العباسية حيث يعمل يحيى، ماذا لو كان يحيى طبيبا يعمل في المستشفى بالفعل، بنفس شخصيته وخلفيته تلك، غير متزوج، يفعل ما يحلو له، يشرب ويلعب البوكر ليلا مع أصدقائه، وفي يوم ما يتم تحويل شريف إليه في المستشفى بنفس تلك الجريمة ويتولى هو حالته، ألن يكون ذلك أوقع؟!
الفذلكة والاستعراض:
في أكثر من مشهد في الفيلم وبدون أي داع تم استخدام أسلوب التصوير بالحركة البطيئة، خصوصا في مشاهد ظهور الممثلين ﻷول مرة، هذا اﻷسلوب موجود بالطبع وله استخداماته المثلى كمشهد النهاية مثلا حيث كان موفقا للغاية، لكن استخدام نفس اﻷسلوب في غير موضعه غير مستحسن ويخرج المشاهد عن واقعية السرد المطلوبة.
مشهد محل الوشم الأول عندما ذهب يحيى لملاقاة ديجا لسؤالها عن وشم شريف أول مرة، تستقبله بطريقة مسرحية مبالغ فيها، وتتحدث له في غموض ودلال ولا تتركه يكمل كلامه، لا أحد يتحدث بهذا الشكل في الواقع! لا أدري سبب الإصرار على تقليد سينما الأجانب في أمور مستهلكة مثل هذه وفي غير سياقها على الإطلاق، هم أنفسهم تركوا العمل بها منذ زمن.
عدم الارتباط:
نتج عن الصدف الكثيرة الموجودة في أحداث الفيلم والتي تتحكم كليا بمجرياته عدم ارتباط وثيق بين كل حلقة وأخرى في مسار الفيلم الطبيعي، مثلا كيف كان سيحل يحيى اللغز بدون حبوب (الفيل الأزرق)؟!
وبخلاف الصدف هناك أحداث أخرى في الفيلم تشعر أنها دخيلة تماما عليه، أذكر منها ما تبين أن يحيى فعله مع مايا بعد الهلوسة الأولى، هل كان يهلوس أم يعتدي عليها؟ أيهما حدث بالضبط؟ لا توجد أي علاقة مطلقا بين حبوب (الفيل الأزرق) وعالم الجن/نائل، من أين جاء هذا الارتباط؟ ما هي علاقة عم سيد بكل ما يحدث ليحيى وشريف، لماذا عم سيد بالذات؟! مشهد الشرح المفصل للغز في الهلوسة الثالثة ليحيى، لا تستقيم الهلوسة أبدا مع الشرح المفصل والحل العبقري الذي رأيناه!
غياب الدافع لدى الشخصيات:
هناك أحداث قامت بها شخصيات الفيلم بدون دافع أو هدف واضح، منها مثلا مضايقة نائل ليحيى، ما هو السبب الذي يجعل نائل يضايق يحيى ويستفزه بهذا الشكل طوال الفيلم رغم أن مصلحته أن يبعده عن الصورة؟! لماذا قام شريف أو نائل بقتل سامح؟ لماذا يبحث يحيى عن حل اللغز ومساعدة شريف بكل هذا النهم، بل ويغامر بكل شيء لأجل ذلك رغم أنه شخص منعزل وغير فضولي تماما؟
***
الخلاصة أن سيناريو الفيلم مليء بالأخطاء والمشاكل التي أضرت كثيرا بالفيلم، السيناريو هو عصب الفيلم السينمائي، ووجود مشاكل بهذا الحجم فيه ربما طغت على إجادة صناع الفيلم في عناصره السينمائية اﻷخرى، وأدت دون مواربة إلى إفساد متعة المشاهدة لدى بعض المشاهدين.
إخراج مروان حامد جيد باستثناء الاستعراض في بعض المشاهد، وبلا شك هو أقل أفلامه كمخرج، مشاهد الهلوسة يستحق عليها التحية هو وفريق المؤثرات البصرية، تقنية تنفيذ تلك المشاهد وكأنها لقطة واحدة كانت موفقة وبديعة. موسيقى الفيلم كانت رائعة في معظم المشاهد، فقط قد تكون أخرجتني من جو الفيلم في مشهدين لا أكثر.
التمثيل هو ما أوقف الفيلم على قدميه قليلا، أداء ممتاز وفهم كامل للشخصيات من كريم عبد العزيز في دور يحيى و خالد الصاوي في دور شريف/نائل، محمد ممدوح فاجأني بأداء احترافي لشخصية سامح ثقيلة الظل إلى النهاية، تألقت دارين حداد في أدائها لشخصية مايا رغم قصر الدور.
أداء متواضع من نيللي كريم في أدائها لشخصية لبنى على عكس ما رأيناها في ( ذات) و( سجن النسا)، ناهيك عن مشكلة ضخمة في كتابة الشخصية، شخصية ذات بعد واحد لا نعلم أي شيء عن تاريخها إلا عندما تتحدث، وبالتالي المُشاهد ينسى كل شيء عنها لحين عودتها إلى الشاشة مرة أخرى.
هناك أخبار عن تحويل رواية (تراب الماس) لأحمد مراد إلى السينما قريبا تحت إخراج مروان حامد أيضا، أتمنى الاستعانة بكاتب سيناريو محايد لنقل الرواية إلى السينما، أعتقد أن ذلك سيصنع فارقا ضخما مع الفيلم.