منذ عدة أسابيع تم الإفصاح عن التريلر الرسمي لفيلم " الخروج" والذي يحكي قصة خروج "موسى" النبي، وشعب بني إسرائيل من أرض مصر، لينضم إلي الحركة الإنتاجية الضخمة التي بدأت هذا العام بهوليوود بصناعة أفلام مأخوذه عن قصص بالإنجيل. بداية من فيلم " ابن الله" (فبراير)، ومن بعده فيلم " نوح" (مارس)، وأخيراً فيلم "الخروج" الذي سيبدأ عرضه عالمياً في شهر ديسمبر. ومن المتوقع أيضاً صدور فيلم "مريم العذراء" أوائل العام المقبل.
ولهوليوود تاريخ طويل مع الأفلام المأخوذة عن الإنجيل، ولطالما حققت تلك الأفلام إيرادات ضخمة وتعتبر من الأفلام "المضمونة" إنتاجياً نظراً لطابعها الديني والتاريخي الذي يجذب جميع فئات جمهور السينما ويلقي القبول علي مستوي العالم. ولكن هذا ليس الحال حتي الآن مع فيلم "الخروج" لمخرجه ريدلي سكوت صاحب الثلاث ترشيحات لجائزة أوسكار والذي فاز فيلمه " جلادياتور" بخمسة جوائز من الأكاديمية عام 2000.
إتُهِم صناع الفيلم بتزييف التاريخ وبالأخص "تبييض" (Whitewashing) التاريخ، وانطلقت على صفحات موقع الإعلام الاجتماعي "تويتر" هاش تاج يدعو الجميع لـ"مقاطعة" فيلم "الخروج" بسبب اختيار الممثلين، بعدما أعطى مخرج الفيلم دور "موسى"، الذي ولد في مصر وعاش بها منذ الصغر، للممثل الويلزي كريستيان بيل "الأبيض البشرة". واختار لدور "فرعون مصر" الأسترالي جويل إدجيرتون "شديد البياض"، ولأم "الفرعون" الممثلة الأمريكية سيجورني ويفر "ناصعة البياض"!
الأكثر إثارة للجدل هو بقية اختيارات الممثلين، حيث أُعطيت جميع أدوار العبيد والقتلة وخدم الفرعون إلي ممثلين من أصل أفريقي يحملون البشرة السمراء! صنف البعض هذا الفعل بـ"العنصري" وفُتح ملف غرس وهم الهيمنة الأمريكية، المتمثلة في البشرة البيضاء على العالم، وهاجم الكثيرين الفيلم، خاصة أصحاب البشرة السمراء، الذين قاموا بحملات شرسة على الفيلم قبل نزوله رسمياً.
*****
في سنة 1986 سافر الفنان الشاب هاني المصري إلي أمريكا بعدما كفر بالمشهد الفني في مصر فور سحب النسخة الشعبية لـ"ألف ليلة وليلة" وإحراقها بميدان الحسين. و"ألف ليلة وليلة" كان هو المشروع الأهم الذي كان يعمل عليه الفنان هاني المصري في تلك الفترة. وتزامن مع هذا الحدث وفاة كل من المؤلف صلاح جاهين والمخرج شادي عبد السلام اللذين كانا مصدر علم وإلهام للمصري.
وفي غضون خمس سنوات فقط حجز هاني المصري مكانه ضمن فريق الفنانين المختص بتصميم وتطوير مدن ديزني حول العالم Walt Disney Imagineering. وفي إحدي الاجتماعات لتصميم مدينة "تون تاون" اقترح المصري على المدير الفني للمشروع "چو لانزيسيرو" إضفاء طراز معماري للمدينة، حيث لم يكن مطروح أي من الطرز المعمارية للمدينة بعد، وأعطي المصري له بعض الأمثلة من الطرز المعمارية المنفذة بالفعل في الولايات المتحدة وقتها. وعلي عكس المتوقع، اتبع المدير، الذي كانت معلوماته المعمارية ضحلة، سياسة الفقر، وقرر أن يهاجم المصري، بدلاً من أن يُقر بنقص معلوماته، واحتد بتعالي: "من أين لك أن تعرف هذه المعلومات وأنت مغترباً ولست أمريكياً"، فرد الإنسان المصري عليه: "اسمع يا "چو"، علشان أكون من القاهرة وأقعد معاك على التربيزة دي، اضررت لدراسة 7000 سنة من الطرز المعمارية من اللي عدت على بلدي، والطرز المعمارية للدول اللي احتلت بلدي من ساعتها للنهاردة، أؤكد لك، إن الـ250 سنة "بتوع أمريكا" يتدرسوا في بعد الظهرية مع "الشاي" و"الكوكيز"!!
في سنة 1995 عزم المخرج ستيفين سبيلبرج على افتتاح ستوديو جديد وأسماه "دريم ووركس"، واستقر على أن يكون أول فيلم ينتجه الإستوديو يدعي "أمير مصر"، قرر الفنان هاني المصري وقتها ترك "والت ديزني إيماجينيرينج"، وذهب لمقابلة طاقم الإنتاج. أبدوا إعجابهم الشديد بملف هاني المصري، ولكنهم اعتذروا له عن عدم إمكانية التحاقه بطاقم العمل نظراً لاكتمال العدد، ليظهر الإنسان المصري بدهائه من جديد ويسألهم "هل تعرفون كيف كانت حاملة الأحبار والألوان عند الكاتب المصري القديم؟" -لا! "أسلحة الجيش المصري؟" -لا! "أوان الطبخ عند المصريين؟ موبيلا القصر الملكي؟ قوانين رسم الجداريات داخل المعابد؟ "-لا -لا -لا"، وعايزين تعملوا الفيلم من غيري؟ .. بالتوفيق"!
وبعد ثلاث سنوات من عمل طاقم الإستوديو على "الأمير" وعمل هاني المصري على "مصر". تم بالفعل الانتهاء من فيلم "أمير مصر" ونزل إلي الأسواق عام 1998 ليحصد إيرادات وصلت إلي 100 مليون دولار أمريكي ومعه جائزة أوسكار لأحسن أغنية.
*****
استندت الصحافة الأمريكية والعالمية لتدين عنصرية اختيار الممثلين وجرمها التاريخي إلي رسومات الشخصيات بفيلم "أمير مصر"، بينما اهتمت الصحافة المصرية بنشر صور " كيم كارداشيان" بالمايوه في عطلة نهاية الأسبوع! هل لم تشاهد الصحافة تريلر الفيلم والحملة لمقاطعته بعد؟ إن صح، فهذه مصيبة، أم ما يأتي بالمزيد بالزيارات للمواقع الصحفية ويلقي الاهتمام الأكبر من متصفحي الجرائد هو صور كيم كارداشيان بالمايوه؟ فهذه مصيبة أعظم!
أنا لا ولن أدعي أن هذا الفيلم هو جزء من مؤامرة أميريكية لضرب مصر ثقافياً. فنحن، مسبقاً، في قاع الزجاجة. المنتج الأمريكي يريد المال، فمن المنطقي بالنسبة له أن يأتي بمشاهير هوليوود لينجح الفيلم. هذه هي المعادلة. وأنا أزعم، وأنا لست بخبير في المصريات، أن هناك المزيد والمزيد من المغالطات التاريخية ستظهر عند طرح الفيلم بالأسواق.
"التاريخ يكتبه المنتصرون"، صلاحية هذه المقولة جائت عندما كان التاريخ يُكتَب بعد حروب تطهير عرقية كحرب الأمريكان الآوائل علي الهنود الحمر. ولكن الآن "التاريخ يكتبه من لا يريد أن يُهزَم"، التاريخ يكتبه الفنانون، التاريخ يكتبه السينمائيون، حارب هاني المصري لمصر عندما حان عليه الدور أن يحارب. والآن، ونحن في امس الحاجة إلي محاربين ليتصدوا إلي العالم، نحارب بعضنا البعض! فهناك أجهزة دولة تتعدي علي الرقابة المصرية لتمنع فيلم لسبب لا يعلمه إلا الله حتي الآن.
وهناك جهات سيادية تمنع مسلسل من الدخول في السباق الرمضاني بسبب أراء صناعه السياسية، والطريف في واقعة منع المسلسل بالذات أنه من إنتاج مدينة الدولة للإنتاج الإعلامي، الدولة منعت عمل أنتجته نفس الدولة لتهدر مال الدولة، لماذا نحن مصممون أن نُهزَم؟ لا أعلم!
ألوان ممثلين فيلم "الخروج" ليست هي القضية، القضية تكمن في "العجز" عن الرد، "العجز" عن الإدانة، "العجز" في طرح الحقيقة، "العجز" في التصالح مع الواقع وإدراك حقيقة أننا "عاجزون". الفيلم سيغزو الأسواق العالمية، وسينجح، ولا أعلم إن كان سيعرض بدور العرض المصرية أم سيواجه نفس مصير فيلم "نوح"، وأنا أرجح أنه سيواجه نفس مصير فيلم "نوح"، ووقتها، حتي، لن نمتلك رفاهية المقاطعة. وإن كانت المقاطعة هي كالمسكن الذي لا يشفي بل يؤجل مواجهة المرض فقط.
على كل مصري أن يدرس ويفهم تاريخه، فالتاريخ هو كل ما نملكه في هذه اللحظة، وعلى كل بيت مصري أن يترك أبنائه إلي دراسة الفن والسينما والأدب والرسم والنحت والفن التشكيلي. فمصر ليست بحاجة إلي المزيد من الأطباء أو المهندسيين، مصر تحتاج فقط إلي أن يتم توزيع الثروة البشرية في أماكنها الصحيحة. مصر بحاجة إلي "هاني المصري"... ولكن بأعداد ضخمة.
أمريكا لا تتآمر على مصر من أجل تخريبها بهدف التخريب، هي تتآمر من أجل مصلحتها، وبدلاً من أن نتصدي لها، لمصلحتنا، سبقناها وتآمرنا علي أنفسنا بتكفير الفن والفنانين واعتبار السينما مجرد آلة للترفيه وحاربنا الاستثمار في الفن وقمنا ببيع تراثنا السينمائي إلي قنوات فضائية "برخص التراب" وهجرنا تاريخنا في المتاحف ينهب وسمحنا بكل الترحاب، للجميع أن ينهش حضارتنا وتاريخنا في صمت.
أتمني أن يكون فيلم "الخروج" بمثابة خروج من الغيبوبة الثقافية في مصر، لأ أن يأتي اليوم، بعد مائة سنة، وينتج فيلم في إستوديوهات هوليوود عن شعب مصر في القرن الواحد والعشرين ويكون بطله راعي بقر أبيض اللون أصفر الشعر يصارع للـ"خروج" من أرض مصر بحثاً عن الماء والكهرباء!!
السينما هي الحل