الموت.. الجنس.. الحكايات.. ثلاثية تكررت في التجربتين اللتين خلقهما السيناريست المختلف مصطفى ذكري؛ الأولى في فيلم عفاريت الأسفلت 1996 للمخرج أسامة فوزي، والثانية في فيلم جنة الشياطين 1999 لنفس المخرج.
الصدى
ربما يصدمك فيلم جنة الشياطين حينما تشاهده للمرة الأولى، أسماء غريبة "طبل، حبة" ومصطلحات أكثر غرابة، "شونة" شخص يموت ويعامله الجميع كأنه حي، ضحكات عالية قبيحة كضحكات الضباع، الكل في فلك شهواني يسبح.
مرحبًا بك في جنة الشياطين، حيث البراح غير المشروط، والخيارات المتاحة، والفراغ المريح للأعصاب، فلا يدخل هذا العالم إلا باحث عن الشهوة، أو أحد أفراده، وكل غريب عنه تلفظه تلك الجنة بمنتهى السرعة والسهولة.
اللافت للنظر في فيلم جنة الشياطين هو صدى الصوت المصاحب للفيلم، وقد يبدو للوهلة الأولى أنه خطأ فني في هندسة الصوت، ولكنك بعد مشهد واحد فقط تكتشف أنه مقصود ومختار بعناية، بل إن صدى الصوت يكمل الحالة التي تصنعها موسيقى فتحي سلامة طوال الفيلم.
ففي مشاهد الشياطين "طبل/ محمود حميدة، نونة/ عمرو واكد، بوسي/ صلاح فهمي، عادل/ سري النجار، حبة/ لبلبة، شوقية/ صفوة"، تجد أن كل جملهم الحوارية وضحكاتهم مصحوبة بصدى صوت محبب للنفس، صدى يدل على البراح وليس الفراغ أو الخواء، فهذا العالم الخاوي تمامًا كما أراده أسامة فوزي أن يكون ملكًا لهم، فلا تجد طيلة الفيلم سيارة واحدة عابرة أو أحد المارة، وكأن أسامة فوزي أخلى القاهرة القديمة وشارع المعز وصلاح سالم ونفق الشهيد أحمد حمدي تمامًا من كافة السكان والعابرين.
مثلما يختلف الديكور ولغة الحوار من الشوارع "الجنة" إلى منزل منير رسمي "طبل"، يختلف تأثير الصدى المصاحب للفيلم، حيث يدعم احساسك بالضيق والمساحة المحدودة، فتجد الصوت يتردد كأن من يتحدث يقف في زنزانة ضيقة أو صندوق خشبي معتم، إضافة للتكلُّف الشديد في الكلام والكراهية المتبادلة بين أفراد أسرة منير رسمي، والتقيُّد الشديد الذي يبدو في أبسط الأشياء، مثل طريقة اجتماعهم وشربهم للشاي وملابسهم، كل هذه الأشياء تجعلك تدرك لماذا تحول منير رسمي إلى طبل "أشهر قمارتي درجة تالتة، بطريرك القهاوي والغرز".
البذور
وإمعانا في الغرائبية والرمزية اللذين خلقهما ذكري في فيلمه المأخوذ عن رواية كونكان العوام "الرجل الذي مات مرتين" للكاتب البرازيلي link: "والشونة هي مكان تخزين الحبوب، ويعني في المخيِّلة الشعبية الجنسية المرأة التي يضع فيها الرجل بذوره الحارة".
وإن كنت اختلف مع الكاتب رامي عبد الرازق في بعض ما قاله عن الفيلم، فمدلول الشونة إذا أُخذ كمكان لحفظ بذور الرغبة التي يلقيها الرجال إلى العاهرات، لكنني أرى أن مدلول الشونة في الفيلم يتسع ليشمل بذور البراح الذي خلقه "طبل" في داخل كل من تعامل معهم وعاشرهم، وقد نرى أن طبل الخارج للشارع منذ عشر سنوات يصادق ثلاثة فتيان في بداية العشرينات، قد يشير هذا إلى أن طبل "نبي" حمل رسالة البراح والخروج على القيود بكافة أشكالها، ليضم عالمه نونة وعادل وبوسي وحبة وشوقية، بل يلقى طبل بذوره في رحم ابنته التي تقف في وجه عائلته قائلة: "ما نخلِّي التابوت للعيلة يمكن حد فيكو يموت.. ماما عاطف عمتو خالو"، وترد عمتها: "أو أنتي".. فتلقى الابنه ببذور "طبل" في وجوههم: "ما اعتقدش يا عمتو إني لما أموت ها اقبل أتحط في صندوق".
البذور التي ألقاها طبل هي التي خلقت هذه الجنة غير المشروطة، ليكون طبل كالمبشر أو النبي الذي يحمل رسالة جاء لينشرها ويخلد ذكره في حكاوي العاهرات والأصدقاء وحتى خجل العائلة من سيرته، لقد نجح ذكري عن طريق طبل في مقاومة الموت بالحكاية.
الحكايات
المثير للدهشة في فيلم جنة الشياطين هو التكثيف الزمني للحدث، والذي لم يتعدَّ زمنه 24 ساعة على أقصى تقدير من لحظة وفاة طبل الثانية، فلقد توفي طبل مرة سابقة حينما هجر منير رسمي عالمه المتكلف والخانق ليدخل الجنة التي طالما أرادها، وحتى عودته كحدوتة تضحك وتُحمل على أكتاف الأصدقاء وفي أحضانهم، وأيضا الزمن الفعلى للفيلم الذي لم يتجاوز الـ80 دقيقة، ترى خلالها حكايات عن طبل، كيف فقد أسنانه، مواقفه، فلسفته، بل يتطور الأمر لترى تلك الحكايات يعاد تمثيلها مرة أخرى، لترى الخناقة التي فقد فيها أسنانه الأصلية تعاد مرة أخرى ليفقد طبل أسنانه التي قامت ابنته بتركيبها له تمهيدًا لدفنه، في تأكيد على أن طبل حي كأسطورة أو كفكرة لتحدي الموت، سواء جاءت سيرته بالفخر والتندُّر كما تروي حكاياته حبه للزبائن، أو يروي بوسي ونونة وعادل وشوقية مواقفه وحكاويه، أو حتى الحكايات التي ترويها عائلته بنبرة الحقد والغضب، وحتى ابنته التي حاولت انتشاله ودفن سيرته تتمادى هي الأخرى في تخليده حينما واجهت زوجها: "طول عمره بيقول عليك خنزير محشي قطط ميتة"، ليكون مقياس العمر في فلسفة مصطفى ذكري هو استمرار تداول الحكايات بين الناس.
البراح المفقود "الصراط"
يظل مشهد انتقال الابنة من منزلها إلى جنه طبل عن طريق الجسر المعلق، كأنما هو الطريق أو الصراط الذي يسير عليه كل من يريد تلك الجنه سواء كان من أهلها أو زائرا أو متفرجا، ليطل علينا مشهد النهاية حيث يعود الشياطين إلى مخبأهم السري في جنتهم عن طريق نفق أجاد طارق التلمساني في إظهاره كسرداب سري لايعرفه إلا الشياطين الستة يدخلون فيه إلى عالم أكثر إظلام لنا ولكنهم يرونه واضحًا جليًا.
يُدخلك فيلم جنة الشياطين عالمًا جديدًا لم تره بعقل واعٍ من قبل، حيث يدخلك إلى الجزء الأكثر شهوانية وأنانية في ذاتك أنت البشري الفاني المقيد بكل أغلال الأديان والقوانين والقواعد والمنطق والمسموح والمرفوض والمستهجن والمحبب، يدخلك الفيلم إلى أكثر المناطق سوداوية وشهوة في حياتك يعرض أمامك رغباتك التي تقيدها القواعد والأديان "الخلود/ الجنس المباح/ الخمر/ الحرية المطلقة"، إنها الجنة، ألم يعد الرب الجميع بجنة بها كل ما حرم منه في الأرض فلا موت ولا تحريم، يدخل ذكري إلى هذا العالم لتشاهده كمن يمر على الصراط، يشاهد الجنة ولن يدخلها إلا بعد الحساب، إلا منير رسمي حامل الرسالة الذي قرر أن ينهى حياته ويدخل الجنة، ليزرع بها شياطين شهواته ورغباته، ويأتي بآخرين يعيشون فيها معه، أملًا في براح لا ينتهي وعمر مديد على ألسنة الناس.