في مُفتتح فيلمه الوثائقي الشهير (The Pervert's Guide to Cinema)، يبدأ المفكر والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك فيلمه بجملة قد تبدو صادمة للوهلة الأولى، لكنها تحمل الكثير من الحقيقة عند التدقيق، حيث قال: "السينما هي أكثر الفنون انحرافًا، فهي لا تمنحك ما ترغب فيه، وإنما تملي عليك كيفية الرغبة".
وما يقصده من هذه الجملة هو أن السينما في منتجاتها النهائية المتمثلة في الأفلام لا تعبر بالضرورة عن الواقع الملموس، وإنما تستوحى وتقتبس مفرداتها البصرية والسردية من الواقع، ومن ثم تقوم بإعادة إنتاجها بما يتوافق مع رؤى وهواجس وأفكار صناع الأفلام، والتي يصيغونها بالكيفيات التي تروق لهم، وهو ما ينتج عنه في النهاية أن السينما تصنع لنفسها نسخها الخاصة من الواقع الذي استوحت منه كل هذا.
أعلم أن هذه المقدمة كانت نظرية على نحو كبير، لكنها كانت الطريقة المثلى -من وجهة نظري- لبدء الحديث عن أخر أفلام المخرج أحمد عبدالله السيد ( ديكور) الذي سجل عرضه الأول في مصر من خلال إحدى العروض الخاصة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والذي يخوض من خلاله عبدالله تجربة مختلفة بالكلية عن فيلمه الأخير ( فرش وغطا).
يحاول أحمد عبدالله السيد هذه المرة أن يعيد اكتشاف طبيعة الوسيط السينمائي ذاته، وإلى أي مدى يكون تأثيره على الكيفية التي نرى بها الواقع خارجه، وما الذي يحدث إذا صرنا متوحدين مع النسخة السينمائية من الواقع واعتبرنهما شيء واحد أو نفس الشيء.
يختبر النص السينمائي الذي كتبه كل من محمد دياب و شيرين دياب كل هذه الأفكار من خلال سردية ذكية ومتداخلة ولا تتوقف عن مراوغة المشاهد حتى أخر لقطة، من خلال اللجوء إلى آلية الإيهام وكسر الإيهام، وينجح للغاية في إيصال المشاهد لنفس الحالة النفسية التي تمر بها مها ( حورية فرغلي)، حيث تظل الحيرة قائمة في داخلنا وفي داخل مها حول أي من العالمين اللذان تعيشهما هو الحقيقي، والآخر هو المتخيل: هل هو عالمها المثير والحيوي مع شريف ( خالد أبو النجا) الذي تعمل معه في السينما في مجال هندسة الديكور، أم حياتها العائلية الرتيبة مع مصطفى ( ماجد الكدواني) والذي تعمل من خلاله كمدرسة للرسم في إحدى مدارس الراهبات؟
إن قالب الإثارة النفسية الذي يختاره الكاتبان لتأطير قصة فيلمهما هو اختيار سينمائي موفق للغاية، فهو من ناحية يعمل على اختبار الفرضيات التي سبق الإشارة إليها من خلال واحد من أكثر الأنواع السينمائية كلاسيكية واستخدامًا على مدار تاريخ السينما، ومن ناحية أخرى يزيد من جرعة غموض وجاذبية القصة ومن فاعلية اللعبة التي يقومان بها في هذا السرد المتداخل.
بالإضافة إلى ذلك، يتضح مدى التأثر الكبير - والذي لا يخفيه صناع الفيلم - بالروح الكلاسيكية لأفلام فاتن حمامة، وخاصة فيلمي ( نهر الحب) و( الليلة الأخيرة)، وهذا التأثر يحمل بالتأكيد افتتان بالصورة البراقة والدراماتيكية التي تبدو عليها الصراعات النفسية والعاطفية التي يموج بها الفيلمان، حتى أن مشهد القطار الشهير في (نهر الحب) يتم محاكاته هنا في مشهد كامل في خيال مها من فرط توحدها مع الصورة الذهنية للصراع الذي تعيشه.
يعمل تصوير الفيلم بالأبيض والأسود على عدة مناحي، فهو من ناحية يزيد من حدية الصراع بين ضدين، وهو ما ينم عن محدودية الخيارات أمام مها، كما يعمل على إبراز مدى أناقة الصورة المتخيلة للصراع في ذهنها، وذلك على الخلاف التام من الواقع الذي تتزاحم وتتشابك الألوان فيه، وهو ما يتكشف بالتأكيد مع حلول أخر لقطة من الفيلم.
فيلم (ديكور) يحمل في جعبته المتعة والأهمية الفنية في آن واحد، كما أن الحس التجريبي فيه أكثر قيمة وتماسكًا وتألقًا في ناتجه النهائي عن تجربة (فرش وغطا) في العام الماضي، التي كانت مليئة بعدد من المشاكل الفنية، والتي تلافاها أحمد عبدالله هنا بنجاح.