المتمرِّسون من مشاهدي الأفلام -تحديدًا هؤلاء محبي الأفلام ضخمة الإنتاج- لابد وأنهم قد لاحظوا في السنوات الأخيرة نزعة غريبة أو اتجاهًا غير معتاد تنتهجه هوليوود منذ فترة ليست بالقصيرة. أنا لا أتحدث هنا عن أفلام الكوميكس التي قاربت أن تُزهق أرواحنا، أو موجة إعادات الإنتاج السخيفة، أو نُدرة السيناريوهات التي تستحق المشاهدة، لا شيء من هذا القبيل... بل أرمي إلى شيء أخطر بكثير من وجهة نظري، آفة فتّاكة تُشكِّل ضررًا فادحًا على الصناعة على مستوى البنية الأساسية... أنا أتحدث عن الـ Look، عن الألوان، عن صورة النهائية التي يخرج بها الفيلم... هل لاحظت شيئًا غريبًا بخصوصها مؤخرًا؟
نعم بالتأكيد أنك لاحظت ما يطلق عليه "فيروس الأزرق والبرتقالي" Teal and Orange، ذلك الذي أصاب كبد صناعة السينما، والذي لا يبدو أنها ستشفى منه في أي وقت قريبًا. ما يحدث من تشويه لصورة الفيلم السينمائي حاليًا هو أحد أكثر الممارسات الخبيثة والمشينة التي طغت على الصناعة على الإطلاق.
تأبى هوليوود هذه الأيام إلا أن تطرح جميع أفلامها تقريبًا مدموغة بدمغة من اللونين الأزرق والبرتقالي، وكأنه خط إنتاج موحَّد. كل شيء بخصوص ألوان الأفلام هذه الأيام يبدو صناعيًا للغاية، كل شيء نظيفًا زيادة عن اللزوم... الصورة الطبيعية للفيلم السينمائي كادت أن تختفي ليحل محلَّها نسخة مشوَّهة من اللونين الأزرق والبرتقالي، وكأننا نعيش أحداث فيلم Invation of the Body Snatchers حيث يتحول الناس من حولك إلى غرباء دون أن تشعر. تدريجيًا كل الأفلام أصبحت تشبه بعضها البعض، خصوصًا الأفلام ضخمة الإنتاج Blockbusters. لكن حتى السينما الجادة المتحفِّظة لم تنجُ من الأمر... خذ عندك Whiplash مثلًا، أحد أفضل أفلام 2014، كل شيء فيه برتقالي وأزرق لدرجة تثير الجنون... هناك لقطات مُستفزِّة للغاية للمارة في الشارع وكلهم تقريبًا يرتدون ملابس زرقاء لعينة ليعززوا الصورة البصرية المرغوبة أكثر... هذا شيء مُخيف من الممكن أن يفسد عليك تجربة مشاهدة أفلام عديدة إذا تركته يفترسك، وهذا سيحدث مع الأسف رغمًا عنك ما أن تبدأ في ملاحظته... ترددت كثيرًا قبل كتابة المقال حتى لا أجعل من لم يلحظوا الأمر يلحظوه، وحتى لا يتم لعني بعدها في كل مرة يجد المُشاهد نفسه فيها مشتتًا أثناء المشاهدة بسبب تركيزه مع سخافة الأزرق والبرتقالي التي تغرق كل شيء.
أين ذهبت الصورة الطبيعية زاهية الألوان للفيلم السينمائي؟ ماذا حدث لألوان أفلام التسعينات الطبيعية التي كنت تجد فيها كل أطياف قوس قزح؟ كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ حسنًا، هي قصة حزينة ومؤسفة للغاية في الواقع، بدأت بأمر واعد جدًّا تم استخدامه ببراعة، ثم انقلب السحر على الساحر وفسد كل شيء. للإجابة على الأسئلة السابقة يجب علينا أن نعود إلى الوراء قليلًا، إلى 15 عامًا مضت، تحديدًا إلى العام 2000... هذا هو العام الذي طَرَح فيه الأخوين كوين فيلمهم الشهير ?O Brother, Where Art Thou، ومن هنا تبدأ قصتنا.
?O Brother, Where Art Thou هو أول فيلم سينمائي يتم مسحه رقميًا كادرًا بكادر بعد الانتهاء من تصويره. الفيلم تم إدخاله إلى الحاسوب لإجراء تعديلات رقمية على ألوانه، في عملية يطلق عليها Digital Intermediary أو اختصارًا DI. كان لدى الأخوين كوين تصوُّرًا بصريًا خاصًا للفيلم لم يكن من الممكن تحقيقه عن طريق استخدام باليتة الألوان الطبيعية، لذا بدؤوا أول عملية DI في تاريخ السينما.
ما أن يصبح الفيلم داخل الحاسوب يصبح لدى مُصحِّح الألوان قدرات الإله... مع المسح الرقمي لشريط الفيلم يستطيع مُصحِّحي الألوان استخدام كل الإمكانيات التي يتيحها برنامج الـ Photoshop -التي كانت قاصرة على الصور الفوتوغرافية قبل ذلك- ليلوِّنوا الفيلم كما يريدون... حاول أن تتخيل القدرة على التلاعب بألوان فيلم بالكامل كما تتلاعب بألوان صورة فوتوغرافية وعندها ستعرف مقدار القوة التي تم إطلاق سراحها... فَتَح هذا للتلاعب بألوان شريط الفيلم حدودًا لم يتخيلها أحد من قبل، في الواقع لم تعد هناك أي حدود... من الممكن أن يخرج الفيلم بأي طابع بصري وأي درجات ألوان يريدها المخرج، لم يعد من الضروري ضبط إضاءتك جيدًا أثناء التصوير، من الممكن التهاون مع كل شيء، فالقوة الجديدة وراءك وستدعمك إلى آخر مدى... لكن تُرى هل تم استخدام تلك القوة بوعي وحكمة؟ مع الأسف لا.
قبل ذلك، كانت عملية تصحيح الألوان تتم في المعمل وبشكل كيميائي بالكامل، ومن خلالها يستطيع مُصحِّح الألوان فقط أن يعزل أو يعزز بعضًا من الألوان، ولكن لم تكن هناك إمكانية فعَّالة لتطويعها بالكامل. لكن مع هذه التقنية الجديدة استطعنا أن نرى أفلامًا مثل Sin City، و 300، و Watchmen وغيرها... كانت ثورة سينمائية جبّارة تضاهي ثورة دخول الصوت إلى عصر الصمت، ودخول الألوان إلى عصر الأبيض والأسود... هناك قصص خاصة جدًّا كانت تتضرع إلى ظهور تقنية مثل هذه ليتمكن أصحابها من تنفيذها. ولكن... نعم لابد دائمًا من لكن.
ما بدأ كأسلوب فريد من الممكن أن يُغلِّف بعض الأفلام بطابع بصري فريد يضمن لها تفرُّدها، تحوَّل إلى آفة حقيقية تدمِّر تجربة المُشاهدة بالكامل. وجاء عصر الأزرق والبرتقالي. لا أحد يعرف بالتحديد من بدأه (غالبًا هو مايكل باي مع Armageddon)، ولا لماذا سار الآخرون وراءه... لكن المأساة يمكن تتبع استفحالها الحقيقي بداية من العام 2007، مع ظهور أول جزء سلسلة Transformers... والآن، وبعد مرور عقد تقريبًا، لم يعد هناك أي فيلم تقريبًا يمر دون إصباغه بالصبغة الأزرو-برتقالية اللعينة.
link المتخصص في نظريات الألوان تُظهر لك ماذا يحدث عندما يحاول مُصحِّح الألوان تعديل لون الجلد وتعزيزه. الجلد البشري يقع في نطاق اللون البرتقالي، الآن أنظر جيدًا إلى الطرف المقابل في دائرة الألوان، ماذا ستجد؟ نعم، إنه اللون الأزرق الحبيب في انتظارك فاتحًا ذراعيه. الأمر قدريًا إذًا! من المعروف أن أي لونين مقابلين على دائرة الألوان هما لونان مُكملان لبعضهما البعض، هذا يعني أنك إذا وضعتهما سويًا سيتألقان... الأحمر دائمًا يكمل الأخضر، البرتقالي يكمل الأزرق، والبنفسجي يكمل الأصفر... وبما أن وجوه الممثلين تكون متواجدة في كل كادر الفيلم تقريبًا، لذا لا يوجد أفضل من تطبيق نظرية الألوان المُكمِّلة إلى مداها لإبرازها وتمييزها عن الخلفية، وهذا عن طريق إغراق الخلفية في محيط من الأزرق الباهت الضارب إلى الخضرة.
نتيجة لهذا الافتراض الزائف بالجمال، تم استخدام هذه الحيلة الرخيصة بإفراط، وكانت النتيجة مجموعة من الأفلام المستنسخة بصريًا من بعضها البعض، جاء أسوأها:
Transformers: Revenge of the Fallen
ومؤخرًا جدًا:
هذه مجرد أمثلة بالطبع، هناك شخص قام بتحليل 312 إعلان فيلم حديث، وصنع رسمًا بيانيًا لهم، وكانت النتيجة صادمة ( link)... الأزرق والبرتقالي يسيطران بالفعل على مجريات الأمور في هوليوود. لاحظ أنني لم أذكر في الأمثلة السابقة Avatar مثلًا، لأن الأزرق هنا كان لاعبًا رئيسيًا وليس مُقحمًا.
الأمر الذي يبدو في ظاهره غير ضار قد أطلق العنان لموضة جديدة أدت في النهاية إلى مجموعة من أسوأ الأفلام أكثر من أي وقت مضى. اﻷمر لم يتوقف بالطبع عند الأفلام نفسها، لكنه تخطى الأمر ليشمل البوسترات وألعاب الفيديو أيضًا. المشكلة هنا هي أنه في الحياة الفعلية هذان اللونان لا يتضادان بهذه القوة، إذا هبّت عاصفة رملية كل شيء يصطبغ باللون الأصفر ولا يعد للأزرق مكانًا، وإذا جلست في إضاءة زرقاء كل شيء من حولك سيأخذ مسحة خفيفة من الأزرق... نادرًا جدًا ما يتضاد هذان اللونان بهذا الشكل الصارخ في الطبيعة، وهذا ما يجعل هذه الأفلام ذات مظهر زائف ومبهرج، وبالطبع يزيد من حدَّة انفصال المؤثرات البصرية عن الخلفية، ومن ثم ظهور عيوبها بشدة وافتضاح أمرها. أعتقد أنه بعد عشرة أو عشرون عامًا من الآن سينظر الناس إلى الوراء ويتساءلون: فيم كان أولئك الملاعين يفكرون حينما فعلوا هذا؟!
الآن، سأطلب منك أن تشاركني في link التي تم الاستعانة بموضوعها في إعداد المقال للوحتي الموناليزا والصرخة إذا تمت معالجتهما بنفس الأسلوب.