يعتقد الكثيرون أن مهمة الكتابة النقدية تنحصر فحسب في المدح أو الذم المكتوب بلغة منمقة وربما متحذلقة، لكني أرى شخصيًا أن الأمر أكبر بكثير من مجرد المدح أو الذم، فعلى الناقد الحق أن يمتلك الكثير من البصيرة والمعرفة والتذوق الفني مما يسمح له بأن يكتشف ما قد يكون غير ملموس للآخرين، وأن يشارك ما اكتشفه مع عموم القراء والمشاهدين ومحبي السينما ومتذوقي الفنون مما يساعدهم في تشكيل رؤاهم الخاصة لا أن يفرض ما يراه عليهم، لأن النقد أصلًا عملية ذاتية لأقصى الحدود وليست موضوعية على الإطلاق كما يعتقد أغلبية الناس، الأمر كله في النهاية يقف على الناقد والبصيرة التي يمتلكها.
كان الناقد السينمائي الأمريكي الراحل روجر إيبرت يعي هذا الأمر جيدًا منذ أن بدأ العمل في صحيفة شيكاغو صن تايمز في عام 1967 بعد تخرجه من قسم الصحافة بجامعة إيلينوي، والتي استمر في الكتابة لها حتى وفاته في عام 2013، رافضًا على نحو حاسم كل العروض المغرية بالعمل لحساب صحف آخرى رغم كل المشاكل التي عانت منها الجريدة ورغم كل الصعوبات، مما جعل عمله في هذه الجريدة ليس فقط المنصة التي أطل منها ملايين القراء على عالم السينما، بل كانت أيضًا حجر الأساس في ميراثه الباقي.
المدح والذم بإشارة إبهام:
صارت إشارة الإبهام المرفوع الشهيرة لروجر إيبرت هى علامته المسجلة التي اشتهر بها طيلة حياته وبعد مماته منذ أن رسخها في برنامجه التليفزيوني Siskel & Ebert الذي شارك في تقديمه مع الناقد السينمائي الراحل جين سيسكل الذي كان يكتب النقد السينمائي بجريدة شيكاغو تريبيون، والتي لم تعد تشير فقط إلى استحسانه للفيلم محل التناول، وإنما هى إشارة ضمنية إلى إبداء الرأي في الأفلام في أبسط أشكاله على الإطلاق: الإشارة، وهو الأمر الذي لقى صدى كبير لدى عموم المشاهدين المتابعين لإيبرت.
كما اعتبر صناع الأفلام في أمريكا على مدار السنوات الفائتة أن علامة الإبهام المرفوع تقدير إضافي يجب الإشارة له بالتأكيد من أجل المساعدة في ترويج الفيلم، وهو ما يفسر تصدر الجملة الشهيرة Two Thumbs Up! لمئات الملصقات الخاصة بالأفلام السينمائية.
إلى مشاهدينا في المنازل:
منذ عام 1986 وحتى عام 2010، ظل البرنامج التليفزيوني الذي قدمه روجر إيبرت هو البرنامج الرائد في التليفزيون الأمريكي بأسره الذي يقدم مراجعات نقدية أولًا بأول عن الأفلام السينمائية الصادرة في دور العرض، ولم يعتمد البرنامج فقط على الأفلام الأمريكية ذات الإنتاج الباهظ، بل امتد إهتمام البرنامج ليشمل الأفلام الأجنبية غير الناطقة باللغة الإنجليزية والأفلام المستقلة، وهو ما ساعد الكثيرين من صناع الأفلام الشباب أو غير المعروفين على نحو كبير على تعريفهم وتعريف أعمالهم للمشاهدين، فصار الكثير منهم يدين بالفضل للبرنامج في مسيرته الفنية.
كما حمل البرنامج ميزة عظيمة آخرى، وهو تغييره التام والشامل لصورة الناقد التقليدية في المخيلة العامة بأنه شخص يجلس في برجه العاجي ليتمتم بكلمات مقعرة، وبدلًا من ذلك ستجد شخصان يتحدثان بلغة بالغة البساطة يفهمها المشاهد أيا كان درجة اهتمامه بفن السينما، بل وحتى قد يتجادلان ويختلفان بشدة في آرائهما حول الفيلم الواحد.
لكل أولئك الذين نسيناهم:
كان روجر إيبرت يمتلك بصيرة نافذة حيال الأفلام للدرجة التي جعلته يمتدح الكثير من الأفلام التي لم يهتم بها غالبية النقاد أو لم يلتفتوا لوجودها، بل إنه كان قادرًا على الاعتراف بخطئه في الحكم على فيلم في وقت عرضه وإنصافه بأثر رجعي، وربما يكون أبرز مثال يرد للذهن على هذا هو فيلم Groundhog Day الذي منحه في مراجعته الأولى ثلاثة نجوم فقط قبل أن يمنحه العلامة الكاملة في مراجعة ثانية كتبها بعد إعادة مشاهدة جديدة له، ويضمه إلى قائمة الأفلام العظيمة في موقعه الرسمي.
وعلى نفس المنهج، قرر إيبرت أن يؤسس link للأفلام المنسية وغير المُقدرة في عام 1999 بهدف إعطاء الفرصة لكل الأفلام التي لم تنل التقدير الكافي الذي تستحقه خلال عروضها الأولى أيا كانت نوعية هذه الأفلام.
ويتم عقد هذا المهرجان في شهر أبريل من كل عام في مسرح فيرجينيا بإيلينوي، وسوف يتم هذا المهرجان في الشهر الجاري عامه السابع عشر.
العصر الجديد:
أتاح link فرصة ذهبية لكل محبي السينما من أجل الإطلاع على جميع المقالات النقدية التي كتبها روجر منذ عام 1967 وحتى عام 2013، وجميع تحليلاته للأحداث الفنية وقوائمه وتحديثاته مما أدي إلى حفظ تراثه النقدي كاملًا للأجيال القادمة، كما قام الموقع بتسهيل التواصل أكثر فأكثر مع قاعدة إضافية جديدة من الجمهور بالإضافة إلى القواعد التي أسسها من قبل من خلال مقالاته النقدية المنشورة وبرنامجه التليفزيوني.
الحياة كفيلم:
بما أن الذكريات تظل دومًا هى الأبقى في وعينا نحو من نحب ومن نقدر، فقد كان الفيلم الوثائقي Life Itself المقتبس عن سيرته الذاتية هو خير ما يذكرنا بكل شيء حول السيرة الطيبة لروجر إيبرت، وحول الأسباب التي تجعلنا نشتاق له ولآرائه في الأفلام من حين لآخر، لذا أنصح بمشاهدته لأجل كل هذا.