" روي أندرسون" ذلك المخرج السويدي الذي أثار القلق في مهرجانات السينما العالمية بثلاثيته حول الوجود التي بدأها بعد انقطاع دام لمدة 25 عامًا عن السينما.
تخرج أندرسون من معهد السينما وأخرج فيلمه الأول A Swedish Love Story "قصة حب سويدية" والذي لقى استحسانًا من قبل الجماهير والنقاد. بدا أن أندرسون ينتظره مستقبل مشرق، وبعد مرور خمس سنوات على فيلمه الأول أخرج أندرسون ثاني أفلامه Giliap "جيلياب" والذي فشل فشلًا مدويًا. فقرر أندرسون بعد هذا الفشل كسب قوته من إخراج الإعلانات.
أندرسون مخرج متميز حقًا فحتى إعلاناته لم تكن نمطية، فقد صنع تصميمًا لإعلاناته كما لو أنها قطعًا فنية حقيقية. وصنع إعلانات لشركات مثل: فولفو وكوداك وسيتروين وغيرهم من الشركات. حتي وصفته " إنجريد بيرجمان" أنه أعظم مخرج إعلانات على الإطلاق.
في عام 1991 أخرج أندرسون فيلمًا قصيرًا اسمه World of Glory "عالم من الفخر"، كان هذا الفيلم بمثابة إعلان لما سيأتي من بعده من أفلام ذات أسلوب أصيل ومختلف.. هو أسلوب "روي أندرسون".
كانت جائزة التحكيم في مهرجان "كان 2000" من نصيب فيلمه الطويل الثالث Songs from the Second Floor "أغاني من الطابق الثاني" مما كان مبهرًا، فهذا مخرج يبدأ مسيرته في أواخر عمره. وبعد سبع سنوات كان فيلمه الرابع You, the Living "أنت، الذي تعيش" والذي حصد العديد من الجوائز أيضًا، ثم كان فيلمه الخامس A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existence "الحمامة التي وقفت فوق غصن تتأمل الوجود" الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي الخاصة بمهرجان فينيسيا.
لكن ما الذي يجعل من أسلوب روي أندرسون مختلفا حقا؟ هذا ما سأحاول أن أعرضه هنا في هذا المقال. لن أتحدث هنا مطلقاً إلا عن أسلوبه الخاص الذي خلقه في ثلاثيته (أغاني من الطابق الثاني، أنت- الذي تعيش، حمامة وقفت فوق غصن تتأمل الوجود) أو كما تعرف باسم ثلاثية الوجود.
أندرسون والفن التشكيلي
يقول أندرسون "إن أهم مصدر للإلهام لدي هو الرسم وتاريخه، وتاريخ الصور الفوتوغرافية أيضًا" وإذا شاهدت أيَّا من أفلامه ستجد أن أندرسون فنانًا تشكيليًا بجدارة. لكنه سينمائي في نفس الوقت، كادراته تشبه اللوحات إلى حد بعيد وقد يتأتى هذا من دقة صنعه لكل تفصيلة في المشهد، فهو لا يصور في موقع تصوير خارجي أبدًا، إن أندرسون يصنع عالمه الخاص ومن هنا تأتي بداية رؤيتي له كرسام سينمائي!
تأثر أندرسون بالعديد من التشكيليين مثل البلجيكي رينيه ماغريت والهولندي بيتر بروغل والأمريكي إدوارد هيوبر. وإذا نظرنا إلى كل من أعمال الثلاثة لابد أن نجد بعض الخيوط المتشابهة التي تمتد في وعي أندرسون وتظهر لنا من خلال كادراته الرائعة.
فلابد من ملاحظة تأثره بلوحة " link" لبيتر بروجل الابن والتي تُظهر الطيور وهي تتأمل البشرية من أعلى الأشجار الخاوية، هذا التأثر من حيث الشكل والمضمون، فألوان اللوحة الباهتة التي تعطي احساسًا بالبرودة هي نفس تيمة ألوان أندرسون التي يعطيها لأفلامه. أما بالنسبة للمضمون فهي تقترب في المعني من فيلمه الأخير "الحمامة التي وقفت فوق غصن تتأمل الوجود" ولنا في هذا خير دليل في افتتاحية الفيلم.
وباستكمال النظر إلى أعمال الأمريكي "ادوارد هيوبر" فسنجد أن مقاهي أندرسون تشبه إلى حد كبير مقاهي لوحات هيوبر.
إن أندرسون أيضًا بشكل أو بآخر يعد فنانًا تشكيليًا قادرًا على صنع كادراته بنفسه فهو يبني كل تفصيلة صغيرة بنفسه كما لو أنه يصنع لوحة "كولاج سينمائي" ويبدأ في تحريك شخصياته داخل تلك اللوحة لتنقسم إلى لوحات عديدة غاية في الجمال.
إذن؛ هل كان تأثر أندرسون فقط بالفن التشكيلي وتاريخه؟!
بالطبع لا؛ فقد استمد الكثير من إلهامه من الأدب والشعر أيضًا، فكما يقول بنفسه: لقد أردت أن أكون كاتبًا، أردت أن أكتب "غريبًا" جديدًا. (رواية الغريب الأصلية لألبير كامو).
لم يشأ القدر لأندرسون أن يكون كاتبًا، لكن حلمه بكتابة رواية كرواية كامو تحقق بشكل سينمائي فالشخصيات عند أندرسون تقترب من لوحات ماغريت وغريب ألبير كامو، كلهم غرباء، لايشعرون بأي انتماء، وجوههم باهتة اللون ومشاعرهم تعيسة وحياتهم عبثية بشكل مفزع.
أما بالنسبة للشعر فلا يوجد دليل أفضل من اعتراف أندرسون باستلهامه لفيلمه "أغاني من الطابق الثاني" من قصيدة "عثرة بين نجمتين" للشاعر سيزار فايخو وبدايته للفيلم بسطر من أبياته (محبوبي كن من يجلس).
أسلوب السرد لدى أندرسون
يقدم لنا أندرسون مقتطفات من الحياة كما شاهدها هو، فلا توجد بنية قوية لحكاية محددة، ولا يوجد أبطال خارقون، ولكن تلك الحكايات المبعثرة تشترك في طابع واحد ألا وهو السخرية من حال البشرية البائسة في مشاهد عبثية منفصلة.
هذه الرؤية للوجود تتضح معالمها منذ فيلمه القصير "عالم من الفخر" عام 1991 مظهرًا مدى البؤس والتخاذل الإنساني. ففي أول لقطة يُظهر مجموعة من البشر تشاهد محرقة لعدد من الآدميين دون أي حركة أو رد فعل. الأمر الذي يتكرر كثيرًا بعد ذلك في أفلامه.
الموسيقى
موسيقى أندرسون في الأفلام الثلاثة تمتلك نمطًا مميزًا. فهي مستمرة رغم كل الأحداث مهما كانت قساوتها في دليل قاطع على استمرارية الحياة برغم كل هذا العبث الوجودي. مزيج من الآلآت النحاسية التي يبدو أن أندرسون يكنُّ لها الكثير من الإعجاب. هذا المزيج الذي لا تكتمل المشاهدة والشعور بدونه.
البعد الرمزي
يسستخدم أندرسون كل حرفيته وموهبته في خلق رمزية لرؤيته للعالم. بداية من فيلم "عالم من الفخر" وهو يُظهر تخاذل السويديين تجاه محارق النازيين، كما يُظهر مدى بؤس حياتهم التي تبدو حياة جميلة. لن أسرد أحداث الأفلام، لأن هذا سيكون مملا للغاية ولكنني سأقتبس بعض الحكايات التي تخلق البعد الرمزي عند أندرسون.
فلدينا حكاية عن طفلة جميلة يتم إخبارها بأنها صغيرة ولابد أن تترك القرار للأكبر سنًا وخبرة. ثم يتم اقتيادها وهي معصوبة الأعين إلى هاوية سحيقة أمام حشد كبير من البشر. وفي الكادر التالي لقتلها يجلسون في أحد البارات يتباكون موتها في دلالة رمزية علي قتل المجتمع للبراءة والتباكي عليها.
تدور حكاية أخرى في "أنت، الذي تعيش" عن حلم وكابوس. حلم لفتاة تريد أن تتزوج من أحد الموسيقيين وحكاياتها عن مشاعرها تجاه ذلك الحلم، وكابوس لعامل يحضر مأدبة غداء عند بعض الأرستقراطيين ويحاول أن يريهم خدعة فيتسبب في تكسير الأطباق ثم يقتاد إلى المحكمة ليحكم عليه بالإعدام بينما القضاة يحتسون الجعة احتفالاً بإعدامه.
أما حكايات "حمامة وقفت فوق غصن" فهي كاستكمالات لرؤية أندرسون ويظهر هذا من تقسيم الفيلم فهو يسخر من الموت في ثلاث مواقف ساخرة في البداية ثم يسرد بعضا من حكاياته ثم ينهي الفيلم بمحرقة للقرود أمام جمع من البشر.
قد تحمل كل هذه الحكايات أبعادًا رمزية يصرح بها أندرسون بنفسه أحيانًا ولكني أرى أنها قد تحمل أكثر مما في وعي أندرسون. الأمر الذي يمهد لتأويلات لا حصر لها على حسب وعي المتلقي وهذا ما يبرز عظمته أيضًا.
هذه الحكايات التي تم خلقها بأسلوب بصري مميز، وبدون ممثلين محترفين، شحوب الوجوه والكادرات على السواء، استخدام الكادر الواسع والكاميرا المثبتة باستثناء حالة أو حالتين، الديكور المبني قطعة بقطعة بخيال مخرج كأندرسون، تخلق عالمًا خاصا بأندرسون، هذا العالم الذي فضح فيه شخصياته وجردهم من كل زيفهم ليظهر مدى ضعفهم الإنساني.
يقول أندرسون عن فيلمه الأخير "حمامة وقفت فوق غصن" أنه فيلم قد يجعلك أكثر ذكاءً. وأنا أعتقد أن الثلاثية ستضيف إليك لا على مستوى الذكاء بل على مستوى إنساني أيضًا. فهي سيمفونية معزوفة بدقة على أوتار الجنس البشري.
المراجع :
Roy andersson's cinematic poetry and the spectre of cesar Vallejo
Complex Staging : The hidden dimensions of roy andersson's aesthetics
حوارات متنوعة مع روي أندرسون