بعد مشاركته وفوزه بجائزة لجنة التحكيم من قسم (نظرة خاصة) ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي الدولي، عُرض مساء أمس الفيلم الكرواتي The High Sun ضمن المسابقة الرسمية ل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ37، وهو الفيلم الذي يعد أول فيلم كرواتي يشارك في مهرجان كان منذ إعلان كرواتيا الاستقلال عن يوغوسلافيا في عام 1991.
يقدم الفيلم خلال أحداثه ثلاث قصص مختلفة يفصل بين كل منها عشر سنوات كاملة (1991، 2001، 2011)، وتتعرض لتنويعات متنوعة عن التوترات التي وقعت بين الصرب والكروات وأفضت إلى سلسلة الحروب اليوغوسلافية التي كانت من أعنف حلقاتها حرب البوسنة والهرسك خلال حقبة التسعينات، وهذه القصص الثلاثة يربطها المخرج الكرواتي داليبور ماتانك بأكثر من حبل سري طوال الوقت.
يعمد المخرج -على خلاف العادة- إلى اختيار الممثلين تاهينا لازوفيك و جوران ماركوفيك ليقوموا بدور المحبين في كل من القصص الثلاثة على الرغم من اختلاف الشخصيات في كل مرة، وذلك من أجل تعزيز حالة الاتصال بين القصص أكثر فأكثر، مصورًا إياهم كعدة نسخ لنفس الحبيبين في عدة أزمنة مختلفة مع اختلاف الظروف التي تحيط بكل قصة.
لاحظ أيضًا أن الفيلم يبتعد تمامًا عن الصورة الكبيرة لما حدث خلال فترة الحرب وما تلاها في العقود التالية، وإنما يبحث عن كل ما كان بعيدًا ومهمشًا عن هذه الصورة الكبيرة لنشهد أثر ما كان يحدث على سيرورة كل علاقة على حدة، فربما يكون جيلنا على وعي كبير بما كان يجرى خلال هذه السنوات المظلمة في تلك المنطقة من الأرض، لكن ربما كان الشيء الأكثر بقاء والأكثر تأثيرًا هو نتيجة هذا الصراع في النفوس حتى مع انتهاء الأسباب التي أدت للصراع في المقام الأول، أو على حد قول الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل: "إن الاعتقاد المُسلم به بأن الزمن يشفي الجروح هو اعتقاد مغلوط، إننا نعتاد عليها، وهذا ليس الشيء ذاته".
من المثير في الفيلم الطريقة التي تتطور بها الحكايات الثلاث كوحدة واحدة متصلة مع تطور النظرة الواقعية للعالم، حيث تنطلق القصة الأولى من موقف رومانسي كلاسيكي تدخل فيه الحرب القادمة على الأبواب كمؤثر قدري على العلاقة المتشكلة بين ييلينا وإيفان، وتختلف الانطلاقة تمامًا في القصتان الثانية والثالثة التي تقوم على محاولة تجاوز الماضي والاحتياج المشترك. من منطلق واقعي صرف
هناك شيء مشترك في الحكايات الثلاث يزيد ربطها ببعضها البعض، وهو رغبة البحث عن البداية الجديدة، فبينما يتطلع بطلي القصة الأولى للهروب إلى المدينة من أجل البداية بعيدًا عن الصراعات التي تمزق الأنحاء التي يعيشوا بها، نجد أن الأم والابنة في القصة الثانية يحاولان البدء مجددًا من خلال العودة إلى منزلهما الذي خلفاه بعد الحرب وإعادة إصلاحه من جديد، أما في القصة الثالثة فتتمثل البداية الجديدة في محاولة الحصول على الغفران التي يحاول لوكا الحصول عليها من حبيبته ماريا بعد تخليه عنها مرغمًا بسبب والديه.
كما توجد لحظة متكررة ومشتركة في جميع الحكايات، وهى لحظة الغوص في الماء التي يتحرر فيها بطل كل قصة من العبء الذي يقاسيه ولو للحظات، فبينما تتحرر يلينا من القيود الأسرية حينما تكون مع حبيبها على شاطيء البحر، تجد ناتاسا في البحر التحامًا حميميًا يعوضها عن الكبت الجنسي الذي تعانيه في وجود أنتي الذي ترغب به جنسيًا لكنها لا تحبه في نفس الوقت، أما في القصة الثالثة فيحاول لوكا مع كل الأجواء الاحتفالية التي يعيشها أن ينسى حزنه بسبب رفض حبيبته للغفران.
ولا يحتاج الأمر للثرثرة كثيرًا حول الظروف التي كانت تعيشها الدول التي استقلت عن الاتحاد اليوغوسلافي، فمن الكافي جدًا ما نراه أمامنا من حيوات تصدعت جراء ذلك، لكن يظل الأمل دائمًا موجودًا أمامهم لعيش حياة جديدة، ويبقى الباب كذلك مفتوحًا على مصراعيه لندلف منه مثلما فتحه لنا ماتانك مع ختام الفيلم.