إنه موُلِد سيدي "عرش الدين".. لا عجب في أن القوم يتحلقون مقامُه من كُل صوب، وقد رفعوا صيحاتهم المكلومة، وانهمرت دموعهم مُناجين، يتخذون من الولي "عرش الدين" واسطة لربهم كي يحقق لهم دعواتهم، التي طمحوا لها في استجابة تنعم على قلوبهم بالراحة، وتحقق لهم مساعيهم التي طال انتظارها.. مُولد سيدي "عرش الدين" الذي تدافع له البشر من كل ناحية ومن كل مكان، لا يشغلهم سوى همًا واحدًا لا مُشارك له، التضرع لدعوة طمعوا في أن تظفر بالتحقق، وربما ستنضم لهم، متحلقًا معهم المقام، لتدعو أن تتعثر لك في غاية من الفيلم طيلة مدة عرضه!
لنتفق أن مبدأنا الأساسي في فيلم " الليلة الكبيرة" -والذي سننطلق منه- هو ذلك الضريح الذي جمع كافة البشر باختلاف طبقاتهم، ثقافاتهم، غاياتهم ومقاصدهم، مع تباين قصصهم.. حيث يستعرض لنا الفيلم هذه القصص في خطوط متوازية طيلة مدة عرضه، لتدرك في النهاية أنك لم تتأثر بواحدة منهم، أو تقتنع بمجرياتها، أنت تشاهد ولا تكترث، يحدث ما يحدث ولا تُلق بالًا له أو تهتم، وأنا أعزي السبب في المقام الأول إلى الورق، أعتقد أن سيناريو الفيلم وطريقة سيرورته وحبكات قصصه المختلفة، غاب عنها المنطق وواقعية التفاصيل في أغلب الآحيان، فتشاهد أنت الأمر ويمُر عليك مرور الكرام دون أن يعلق منه برأسك، سوى ما أثار حنقك وغاب عنك غايته! فلو عقدنا مقارنة بسيطة بين سيناريو فيلمنا هذا، وسيناريو فيلم " الفرح"، لنفس المؤلف أحمد عبد الله، سيكون من اليسير تمامًا أن نشهد اختلاف حبكة الشخصيات وقصصها في الفيلمين، ومدى قوة حلقة الربط بينهم وواقعيتها، ومدى منطقيتها لنا كمشاهدين، بناءً على ما دعمها من تفاصيل، وفي هذا الشأن، أرى أن الفرح يكتسح بمراحل، وأنه -تقريبًا- لا وجه للمقارنة.
فلو تعرضنا لقصص الفيلم سريعًا، والتي كان بين بعضها حلقات ربط باختلاف الأحداث والمواقف.. ستقابلنا قصة وفاء عامر وابنتها زينة وزوج ابنتها أحمد وفيق، الزوجة التي اقُتصرَت ذريتها على البنات لا غير، وتطمح والدتها في أن يكون لها ولدًا من زوجها، حتى لا تلحقها نفس الخيبة التي طالت أمها مع والدها من قبل لذات السبب، ومن هنا نشهد تضرع وفاء عامر جيئة وذهابًا، وإخلاصها المتفان في كل السُبل التي قد تؤدي لحمل ابنتها بالولد الذي طال انتظاره، والزوج الذي لم يترك هو الآخر سبيل لتحقيق مُبتغاهم.. هي قصة لا تحمل من التفرُد كثيرًا، وتليق بأجواء الموُلِد والضريح بلا شك، ربما مشكلة القصة هي أن طريقة سردها وأداء ممثليها، يسمح لك بتوقع خاتمتها منذ منتصفها تقريبًا، وربما ابتذال الأداء أجهز على القصة بعض الشيء، وفاء عامر بذات النبرة في كل دور، وذات الشخصية في كل موقف، ونفس الكاريزما بكل فيلم ومسلسل، زينة ومبالغة في انطلاء شخصيتها بالرقة والبراءة، فباستبكاء نبرة هذه، ومبالغة تلك في الرقة، ستفقد اهتمامك بالأمر، خاصًة وأن تفاصيل القصة لا تحمل جديدًا ومتوقعة كما أسلفنا الذكر.
ثم قصة أحمد بدير وابنته سمية الخشاب و محمد لطفي العامل معهم بالفريق، وهي القصة التي تليق فعلًا بسيرك في كل تفاصيل سردها ومجرياتها! وإن كان هناك مشهد حمل معنى راق لي، حين شرع محمد لطفي في طعن الإطار الذي تتوسطه سمية الخشاب بالسكاكين خلال تقديم فقرتهما، بينما يستند على الجانب الآخر من الإطار في الكالوس، أحمد بدير والدها، في دلالة راقتني بعض الشيء، أن محمد لطفي يطعنه في ظهره مرارًا وتكرارًا.
بعدها قصة سامي مغاوري و أيتن عامر، والتي حاول بها السيناريست أحمد عبد الله، أن يسلط الضوء على قضية النقاب وما قد ينجم عنها من توابع مأساوية، ولكن القصة كانت ضائعة الحبكة أيضًا، وتفاصيلها لا تخضع لمنطق، ومن الصعب أن تُصدقها في عدة أركان.. وإن أجادت أيتن عامر في استخدام أنوثتها بمساحة الدور في كثير من أوقات القصة، وكان لـ وائل نور ظهورًا مُحببًا لنفس المُشاهد أيضًا، وأدى الدور بشكل جيد الحقيقة.
ثم قصة أحمد صيام الأب، سلوى محمد علي الأم، ياسمين رحمي الابنة، و عمرو عبد الجليل المُنشِد الذي يتودد للابنة وتبادله هي التودد، وربما هي أكثر قصص الفيلم التي غاب المنطق عن تفاصيلها، ناهيك عما تذخر به من مفاجآت تليق بالأفلام الهندية العتيقة! ربما ستثير المفاجآة رجفتك لحظة طرحها فقط لا غير، لكنك تتذكر حبكة القصة التي أجهضت واقعيتها تفاصيل القصة ذاتها، فيغيب عنك التأثر سريعًا.. وبينما نجحت خفة ظل عمرو عبد الجليل في إثارة إعجابنا باقتدار طيلة عرض قصته، وكان لـ"إفيهاته" وطريقة إلقائها نصيبًا هائلًا ومستحقًا من إعجاب المُشاهدين، إلا أن مأساة أخرى أبت أن تترك لنا الأمر لنهنأ به! وهو تركيب صوت المُنشِد على أداء عمرو عبد الجليل، والذي كان بمثابة "النُكتة" التي تُلقى علينا من وقت لآخر بين مأسويات الفيلم المتعددة! ربما هي أسوأ نقاط الفيلم دون منازع، الصوت بعيد تمامًا عن هيئة عمرو عبد الجليل ولا يمُت لادائه بصلة، فتشهد الأمر وتسخر منه لا إراديًا، لا أفهم حتى الآن استقرار صناع العمل على أن يتم الإنشاد بهذه الكيفية، الأمر كان مهزلة فعلية بالنسبة لي! كلما تذكرت عمرو عبد الجليل وقد شرع في إنشاده بهذا الصوت الذي لا يمت له أو لأدائه بصلة، ندت عني الضحكات استنكارًا.
بالطبع زخم الأسماء التي امتلأ بها الفيلم، ستدرك أنه بلا جدوى دون عناء، الأدوار في السيناريو لا تحتمل بالمرة مثل ثقل هذه الأسماء، أبرزهم مثلًا الفنانة سميحة أيوب، فدورها لا يحتاج البتة لفنانة بقدرها العظيم، وكذلك النجم محمود الجندي، ناهيك عن شخصيات بالسيناريو، يمكن اختزالها دون الشعور بأدنى فارق، مثل علاء مرسي و محمد أحمد ماهر، واللذان نجحا باقتدار في تدعيم الصفة التلقينية للسيناريو! كما ذكرت سلفًا، مشكلات كثيرة بالفيلم سأعزي سببها للورق دون لحظة تفكير، وزِد عليها أن السيناريو كان تلقينيًا بشكل مستفز في مواضع عدة من الفيلم، في حين أن هذا التلقين، كان يمكن تفاديه بسهولة تامة.
مشكلة أخرى ترتبط بالسيناريو، وهي ظهور صبري فواز بشخصية تٌعاني "لُطفًا" بعقلها، ورغم هذا لا تنفك طيلة الفيلم عن إلقاء المواعظ والحِكم والنصائح التي تلفُ الرؤوس! وكأن الفيلم كان ينقصه غياب منطق، فأطلقوا علينا هذه الشخصية طيلة الفيلم، تستعرض مواعظها وحِكمها ونُصحها لمختلف الشخصيات!
وأخيرًا القصة التي تفوز، هي قصة أحمد رزق ووالدته صفية العمري، و نسرين أمين الفتاة التي تواصلت مع هذا الابن المكلوم.. هي أكثر قصص الفيلم تفردًا وجمالاً في السرد، صفية العمري كانت كابوسية بشكل مخيف وكما اقتضى الدور وأكثر، عصبية ردود أفعالها ونبرة صوتها في إلقاء كلماتها جعلوها مرعبة فعلًا.. هي أكثر نقاط الفيلم المضيئة بالنسبة لي، وأحمد رزق في أداء يستحق الإشادة والاحترام دون ذرة مغالاة، أدى دورًا ممتازًا، وحتى نسرين أمين في ظهورها الوجيز كانت جميلة فعلًا، ربما القصة غامضة في كينونتها، لكن أداء ممثليها وطريقة سردها بما دعمها من إمكانات، كان كفيلًا بأن تؤثر القصة في دواخلك ويجعلها تعلق بذهنك طيلة الفيلم وحتى بعد انتهائه.
ثم تأتي خاتمة الفيلم، لتنهمر الأمطار بصورة تسُر لها القلوب وتُقر لها الأعين، فنجد الجميع قد انصرفوا عن المقام، والذي لا زال قائمًا، كلُ منهم مُسلسلًا بخطيئته، وقد تسمر تحت المطر المُنهمر في الخلاء، ينظر للسماء بأعين أغشتها الدموع، ونفوس أثقلتها الخطيئة، ينظر للسماء من بين دموعه مناجيًا ربه دون وسيط، تصرخ روحه المكلومة بـ"يا رب"، حتى وإن لم ينطقها لسانه.. خاتمة الفيلم كانت ممتازة في طريقة عرضها، وستستجلب جُلّ حواسك بلا شك، أتقن فيها صناع العمل طريقة العرض بحرفية رائعة، ولكنهم أيضًا رفضوا أن يتركوها دون دس عنصر أو اثنين ليس لهما غاية مفهومة!
يمكننا القول بضمير مستريح أن الفيلم نجح باقتدار في صياغة مُعادلة كانت دائمة التحقق طيلة مدة عرضه، وهي أن صُناعه كلما جنحوا لجعل الأمر أكثر استثنائية وتفردًا، زاد منهم ابتذالًا وهروبًا من المنطق وضياعًا للحبكة! وهي معادلة أتقنت التحقق أغلب أوقات الفيلم بشكل مستفز.
مع كابوسية صفية العمري، امتياز أداء أحمد رزق، خفة ظل عمرو عبد الجليل، وخفة ظهور نسرين أمين، بقي أن نشيد أن هناك جُهد كبير مبذول في صياغة أجواء المُولد بالفعل، وهُناك مشاهد إمكانات وطريقة عرضها كانت متميزة للغاية، أبرزهم مشهد النهاية.. لكن الورق يفيض بالمشاكل، وضياع حبكة قصصه أجهز على مجهودات متعددة به في رأيي، وأضاع كثيرًا من العناصر التي كان من الممكن أن يتمخض عنها رائعة لا تُنسى.
ربما الفيلم ليس بهذا القدر من السوء، وربما القضية في أنه لم يمسني بشكل خاص، خاصًة وأن هناك مجموعة لا بأس بها من الحضور بالقاعة، شرعوا يصفقون عبر انتهاء الفيلم – طريقة عرض خاتمة الفيلم تستحق الإشادة فعلًا – راضيين تمامًا، ولكننا انتظرنا الفيلم كثيرًا، وجاء الأمر أقل من المتوقع بمسافات بالنسبة لي.
ولنجعل كلمة الختام، أن المشكلة الأولى برأيي، هي أن السيناريو يعج بعناصر عديدة غابت عنها الغاية، وضاعت فيها الحبكة، فتشعر في كثير من الآحيان وكأن الفيلم فعلًا موُلِد، كلُ فيه يفعل ما يحلو له.