بمنتهى التحيز، كان فيلم The Lobster هو أكثر فيلم مُنتظر على الإطلاق على قائمتي ضمن كافة الأفلام المعروضة في بانوراما الفيلم الأوروبي هذا العام، الأمر لا يقتصر في اهتمامي بالفيلم على السمعة الطيبة التي حققها في آخر دورات مهرجان كان السينمائي الدولي وفوزه المُستحق بجائزة لجنة التحكيم، بل أيضًا بسبب شغفي الشديد بالمشروع الفني بالغ الخصوصية الذي يعمل عليه المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس سواء في هذا الفيلم الذي يعد أول أفلامه الناطقة باللغة اﻹنجليزية أو في فيلميه السابقين Dogtooth وAlps.
مرة أخرى، يواصل لانثيموس من جديد ما بدأه في أفلامه السابقة من تفكيك وسخرية من فكرة السلطة ضمن أطر بالغة السريالية تسمح له بحمل فكرة السلطة إلى أقصى مدى ممكن لها أو بالأحرى إلى أكثر التصورات المتطرفة لها بشكل قد لا يخطر على بال بشر، وهو ربما ما أشعر الكثير من المشاهدين بصدمة بالغة من الصورة المتطرفة غير التقليدية التي يقدم بها لانثيموس السلطة الأبوية في Dogtooth ليتحول إلى عمل مخيف وصادم رغم نبرة السخرية التي تكتنفه، أو الدرجة التي يمكن بها لإنسان أن ينسحق بمحض إرادته أمام السلطة في Alps.
أما في The Lobster، يتخيل لانثيموس عالمًا مخيفًا على نحو يزاوج بين الديستوبيا والسريالية تستطيع فيه السلطة هذه المرة أن تبسط سلطانها وجبروتها على العواطف، حيث تتحول العاطفة من شيء يشعر به المرء بكامل إرادته إلى شيء واجب القيام به في سبيل إرضاء السلطة التي لا ترى في الوحدة أو العزوبية خيارات نافعة لأفرادها الخاضعين لها حسب رؤيتها، وإن لم يجد المرء الحب حسبما ترغب السلطة وليس حسبما يرغب المرء، سيتم سلخه عن إنسانيته -حرفيًا- بتحويله إلى حيوان لأنه لم يعد جديرًا بأن يظل منهم.
في أكثر من منحى، كنت أشعر خلال المشاهدة أن لانثيموس يقدر كثيرًا أعمال الكاتب التشيكي الراحل فرانز كافكا وخاصة روايتي (التحول أو الانمساخ) و(المحاكمة). الفيلم يتماس مع عدة مناطق متميزة بهم: رابطة الأخوة الجامعة بين دافيد ( كولين فاريل) وشقيقه الذي تحول لكلب بعد فشله في إيجاد شريكة عاطفية تشبه علاقة الأخوة التي جمعت بين جريجور سامسا الذي تحول إلى حشرة ضخمة وبين شقيقته ضمن رواية (التحول)، فكرة التحول من كيان إنساني إلى كيان آخر غير إنساني هى فكرة كافكاوية بامتياز ووجدت الكثير من الصدى لها لدى كل من تأثروا بكافكا، الانسحاق الشديد الذي يعانيه دافيد أمام السلطة ومعاناته معها سواء ممن يفرضون مفاهيمهم عن الحب أو من تمرودا وفرضوا اللاحب على أشيائهم يتماس مع معاناة جوزيف ك. اللانهائية ضمن رواية (المحاكمة).
بل لا نحتاج للقول كذلك أن استخدام صوت الراوي على شريط الصوت يمنح الفيلم بأكمله نكهة تشبه النكهة اﻷمثولية Allegory التي تقوم عليها أعمال فرانز كافكا حتى مع اكتشافنا لاحقًا لشخصية الراوي (أو الراوية) وهى المرأة قصيرة النظر ( راشيل وايز) التي قامت بتسجيل تجربة حبيبها دافيد من أجل العثور على حبيبة جديدة في الفندق قبل أن يعثر كل منهما على اﻵخر، وتغير وظيفة الراوي من مجرد السرد حسب أصول اﻷمثولة إلى تسجيل لتجربة حية.
لانثيموس لا يتوقف في فكرته أمام السلطة التي تمسك في أياديها بكل الخيوط فقط، لأنه بهذا سيكون جل انتقاده لرأس السلطة فحسب، بينما يشمل معها أي محاولة لفرض فكرة بعينها على مجموعة من البشر وتحويلها إلى سلطة، فتصير السلطة الحاكمة والمنشقين عنها هنا متساويان تمامًا في قيام كل منهما بفرض رؤيته عما يجب ولا يجب في العلاقات الإنسانية، وﻷن المنشقين الوحيدين يردون على فكرة العلاقات العاطفية المفروضة بفرض النقيض التام، وهو عدم المشاركة في علاقات عاطفية على اﻹطلاق، ليصير الخيار قائمًا بين الحب أو اللاحب، الجنس أو اللاجنس، ويصير الضحية هنا في هذا الصراع السلطوي على فرض اﻷفكار هو المواطن المنسحق ومُستلب الإنسانية بينهما على غرار المواطن جوزيف ك. في رواية (المحاكمة).
في فيلم كهذا، سيسهل كثيرًا طرح مظاهر استلاب النزعة الإنسانية من الإنسان، وهو الأمر الملموس في كل من جانبي الصراع، ففي الجانب اﻷول يتحول الجنس إلى شيء ميكانيكي وآلي تمامًا وبلا روح وبلا حتى أي شكل من أشكال اللذة، ولانثيموس يؤكد على هذا الاحساس بصريًا من خلال عدة مشاهد من المفترض أن تكون شاعرية بفضل إضاءتها الخافتة، لكن فعل الجنس نفسه يتم على نحو مقبض ومزعج، ناهيك عن فرض فكرة الحب من خلال قوالب محفوظة عبر مشهد تلقيني مضحك يقوم به القائمون على الفندق بقصد التوعية بأهمية أن يكون لك شريك/ة عاطفية.
أن تصوير الفعل الجنسي على هذا النحو المخيف والمستلب لروحه الحقيقية هو ما يدفعنا لفهم الدافع وراء الخيار المتطرف الذي تنحو إليه قائدة مجموعة الوحيدين ( ليا سيدوكس) من منع أي تقارب عاطفي وهو ما يمثل تطرف معاكس قد تمارسه وتدعو إليه أي جماعة مستضعفة تحاول أن تحوز على بعض القوة التي لدى السلطة التي تقاومها وهدم أي ميراث ذو صلة بها، ليظل هو اﻵخر شيء يسلب الطبيعة الحقيقية للإنسان، ولا أجد مثالًا بالغًا على ذلك أقوى من المشهد الرائع والساخر الذي يرقص فيه كل فرد من الوحيدين بمفرده وهو يستمع إلى الموسيقى عبر سماعات اﻷذن.
في ظل العيش مع نظامين متصارعين (السلطة والسلطة المضادة)، لا يبقى أمام المواطن المنسحق سوى حلول معدودة على أصابع اليد، بل هما حلان فحسب: اﻷول هو مسايرة النظام عن طريق ممارسة النفاق مثلما فعل الرجل اﻷعرج ( بن وشو) الذي يزيف إصابته بالرعاف (النزيف اﻷنفي) لينجح في الارتباط بامرأة مصابة فعليًا بالرعاف لينجو من انسلاخه رغم أنفه عن آدميته، والحل الثاني هو التحرر من سيطرة كل السلطات حتى لو تطلب اﻷمر تخلي المرء عن أعز اﻷشياء التي يملكها مثلما حدث مع المرأة قصيرة النظر.
لا نعرف لأغلب أبطال الفيلم إن لم يكن جميعهم أية أسماء على اﻹطلاق، نحن نعرفهم فقط بأهم ما يميزهم من صفات جسدية عن اﻵخرين ويسهل ورودها للذهن إمعانًا في التأكيد على فكرة الإنسانية المستلبة بسبب تحولهم إلى مجرد أنفار، وهو نفس الشيء الذي مارسه لانثيموس مع جميع أفراد العائلة في فيلم Dogtooth أو مع مجموعة تمثيل شخصيات الموتى في Alps حين حمل كل منهم اسم إحدى جبال اﻷلب.
كل هذه الجوانب التي سبق ذكرها عن استلاب الحس الإنساني يحافظ عليها لانثيموس من خلال طريقته في توجيه الممثلين، حيث ينجح الجميع في توصيل ذلك الاحساس بأن كل كلمة يلفظونها مصطنعة ومعدة مسبقًا ومحفوظة عن عمد، وكأن الكلمات صادرة عن آليين تم إدخال الكلمات إلى أنظمتهم البرمجية وليسوا بشر يشعروا بمذاق كل كلمة.
ما أحبه كثيرًا في لانثيموس هو امتلاكه على حد سواء للحس الساخر والقدرة على دفعك للشعور بالصدمة مما تراه، أن يتحول كل شيء تعرفه وتعتاد عليه وتألفه في حياتك اليومية إلى شيء مخيف ومقبض وغريب عما تعرفه فعليًا، ألوانه الهادئة التي تأتي معظمها من اﻷلوان الباردة التي يفضل استخدامها ترسخ هذا الاحساس بالغرابة. لا يزال مذاق أعماله السابقة باقيًا لا يزول هنا، لكن The Lobster ربما يتفوق من وجهة نظري عنهم، ويتفوق فيه لانثيموس على نفسه بنفس المقدار.