انتهينا من مشاهدة فيلم The Lobster في سينما زاوية، وتوجهنا لسينما كريم بشارع عماد الدين في اليوم الرابع لـ بانوراما الفيلم الأوروبي، لمشاهدة فيلم Far from the Madding Crowd في حماسة بالغة. فالفيلم حصل على الإنترنت على تقديرات جيدة، كما أن الأفلام البريطانية التي ترصد مراحل التاريخ الإنجليزي تتسم بمذاقٍ مُختلِف.
لطالما علقت بأذهاننا قصص الأفلام الهندية التي ننجح في معرفة أحداثها مع بداية الفيلم، حتى صار الفيلم الهندي يُضرب به المثل سواء في المبالغة أو التقليدية.
اليوم، يتفوق الفيلم البريطاني Far from the Madding Crowd على نظرائه من بوليوود. فالفيلم الذي يبدو من تصويره مع اللقطة الأولى مختلفــًا، يثير حدس التوقع لدى المشاهد بشكل مبالغ فيه، فيصير كل ما تتوقعه واقعــًا، فتتحول الدراما إلى كوميديا خلال مشاهدتك للفيلم من كثرة روتينية الأحداث وسهولة تخمينها دون أي عناء يُذكر.
الفيلم يتناول قصة إمرأة في مرحلة الحكم الفيكتوري في بريطانيا العظمى، حائرة بين حبها واستقلاليتها. كبرياؤها يمنعها أحيانـًـا من البوح بما تشعر لمن تحب، وسذاجتها في أحيان أخرى تحركها نحو الاتجاه الخاطئ.
قصة الفيلم مأخوذة عن رواية للكاتب البريطاني توماس هاردي بنفس الاسم عام 1874، وقد كان للرواية أصداء جيدة وقتها، وبمرور الوقت تم تحويل الرواية لفيلم أكثر من مرة في أعوام 1967 و1998، ونسخة هذا العام من إخراج الدنماركي توماس فينتربيرج، والذي عُرض له فيلمــًا جيدًا للغاية في بانوراما الفيلم الأوروبي العام الماضي وهو فيلم The Hunt.
يمكن أن نتفهم جيدًا النجاح الذي حققته الرواية منذ قرابة القرن ونصف، فالرواية تناقش قضية استقلالية المرأة في مجتمع قد لا يراها مؤهلة بشكل كافي لإدارة شئوونها الشخصية والعملية، وبالتالي فالعمل وقتها يمكن أن نعتبره ثوريــًا على المستوى الاجتماعي إذ ينتقد هذه الرؤية الذكورية تجاه المرأة. أما أن تُقَدِم عملاً سينمائيــًا عام 2015 حول إمرأة يقع في حبها ثلاثة رجال، ويلعب القدر دومــًا الدور المحوري في الأحداث دون عمل أي معالجة درامية، أو مجهود يبين دور المخرج أو السيناريست لجعل العمل ملائمــًا للمرحلة المعاصرة، فهو شيء مثير للتساؤل والتعجب.
فكيف للسيناريست والمخرج أن يجعلا كل شيء يسير وفق القدر دون الاعتماد على أي منطق؟ فالبطل الرئيسي "أوك" في الفيلم يخسر كل ثروته بسبب كلب، والبطلة "باتشيبا" تكاد تخسر كل ثروتها بسبب حريق لولا مرور "أوك" بالصدفة على مكان الحادثة فيكون هو السبب الرئيسي في إنقاذ مزرعتها.
زوج البطلة "ترُوي"، يلتقيها بالصدفة البحتة في إحدى الغابات وبمجرد لقائها به، تصاب بسهام وسامته وتقع في حبه فورًا من اللقاء الثاني، على الرغم من قوتها في رفض "أوك" في البداية، ثم رفض أحد جيرانها الأرستقراطيين أيضــًا "بولدوود".
لم يستطع كاتب السيناريو ديفيد نيكولز أن يقنعني بأي شخصية في الفيلم، فكما قلنا لو كانت هذه الشخصيات قد رُسمت بهذا الشكل مع صدور الرواية منذ قرنين، كيف لا يستطيع الكاتب في القرن الحادي والعشرين أن يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر؟ هل هو شغف بالرجوع للماضي بكل تفاصيله؟ أم أنه ضعف و"استسهال" في الكتابة ومن ثَمّ الإخراج؟
في بعض الأحيان قد يكون لدى المخرج أو الممثل أو الكاتب رغبة قوية في إعادة إنتاج عمل قد أثّرّ فيه، لكن في حالتنا لم نجد أي بصمة سواء للكاتب أو المخرج، والممثلين بالتبعية لم يقدموا جديدًا.
فالصراع في الفيلم لم يكن عميقــًا حتى نرى في أدائهم ما هو مختلف، وهذا يطرح سؤالاً آخر: لماذا يشارك الممثل في عمل تم تقديمه أكثر من مرة دون أن يصنع لنفسه مساحة مختلفة لم تظهر من قبل في الشخصية؟ الأدب الإنجليزي أثرى السينما، سواء من خلال أعمال شكسبير أو مَنْ خَلَفوه بعد ذلك، إلا أن خلود الأعمال السينمائية لا يأتي فقط من تميز العمل الأدبي، بل أيضـًا من قُدرة المُخرج على أن يصنع شيئــًا جديدًا في الحبكة أو النص أو الصورة أو أداء الممثلين.
وهذا لم يحدث في فيلم اليوم سوى على مستوى الصورة، وهذا منطقي ومتوقع، فلا يُعقل أن تدور الأحداث في الريف البريطاني في القرن التاسع عشر دون أن نرى صورة خلابة طوال الوقت، أو أزياء راقية. ربما يكون هذان الشيئان من محاسن الفيلم في نظري.
الحب والرومانسية دومــًا من الموضوعات التي تشغل بال السينمائيين والكتاب، ومهما تكررت هذه الحكايات التي تتعلق بالحب والغيرة والخيانة، لا يمل المشاهدون متابعتها لأنها تعكس صورنا وشخصياتنا من خلالها.
إلا أن فيلم Far from the Madding Crowd خلال الساعتين لم يخلق لديّ هذا الشعور بالألم على فِراق الحبيب، أو الغَيرة، أو الرغبة في الهُجران. كل ما شكلّه الفيلم عندي هو سلسلة من التوقعات الرتيبة المزعجة في نفس الوقت، فتعرف الحبكة والشخص الشرير حتى لو لم تقرأ الرواية من قبل.
خرجنا من الفيلم، وقد كان عدد كل مَنْ في القاعة لا يتخطى العشرين شخصــًا وأنا أشكر الله أن الفيلم لم يحظ بإقبال جماهيري، على عكس ما حدث في فيلم The Lobster الذي اكتظت القاعة لمشاهدته ونفدت تذاكره قبل العرض بساعات.