يبدأ فيلم " إطار الليل، The Narrow Frame of Midnight" بـ"زكريا" الذي يكتشف أن شقيقه مفقود، وزوجة شقيقه تبكي وتندب حظها على ما تركه لها من مسئوليات لن تحتملها وحدها، حيث طفلاها على رأس تلك المسئوليات، ومن خلال حوار وجيز يدور بينهما نُدرك أن المفقود هذا، قد يكون ترك المغرب وسافر إلى العراق -لهما أصول مغربية عراقية- لسبٍب ما لا نعلمه! وبهذا نعلم أن "زكريا" سيخوض رحلة طويلة -قد تتعدد بها الأقطار- للبحث عن شقيقه.
أما "عائشة" فهي فتاة صغيرة، أمست يتيمة بوفاة والدتها ورحيلها عن عالمنا، لتتقاذفها أيادي القدر القاسية، فتهيم على وجهها لا تدري من أين تذهب أو تجيء، ولحظها العاثر تلتقي "عباس".
"عباس" رجل وضيع كما ينبغي، لن نبذل جهدًا في إدراك هذا، لا يندى جبينه لأى فعٍل قبيح قد يرتكبه، وندرك بسلاسة أنه لن يدخر جهدًا في بذل أي عمل إجرامي لكسب النقود، هو قرر أن العالم مكانًا لمثل من هم على شاكلته، وإن أراد الحياة فعليه التحلّي بكل ما هو خبيث، حتى أن رفيقته التي تلازمه تعاني الأمرين من أفعاله التي لا يكترث فيها إلا لذاته أو مغنمه من الأموال.
حسنًا، هذه هي شخصياتنا التي ستتقاطع دروبهم وتتشابك علاقاتهم، والمفترض أن نتورط نحن فيما سينجم عن التقاطع والتشابك من علاقات وأحداث، وأن نغوص مع الشخصيات في أزماتهم، وأن نخوض رحلاتهم بكامل المعايشة والالتحام، لكن هذا لن يتحقق للأسف، وإن كان تحقق لخطوات، فهي خطوات معدودة لم يستقم دربها للنهاية.
"عباس" يعثر على اليتيمة "عائشة"، ومن خلال اتصالاته يتبين لنا أنه سيسلمها لأحدهم مقابل مال وفير لا يمكن مقاومته.. تلك هي العلاقة الأولى التي تنشأ بين شخوصنا، وفي بدايتها كانت جيدة وتوسمنا أن تُثمر أكثر، فأنت ستتقزز من "عباس" وطريقة معاملته للفتاة، وجشعه في أن يسلمها لمن لا نعلمه حتى يحصل على النقود، ويتسرب لك الاحساس بأن مَن سُتسَلم إليه هذا، لن يُحسن معاملتها، فهو قطعًا على شاكلة "عباس"، سيروقك حوار الوضيع بما حمل من قسوة انطوت على فكاهة أحيانًا، وستحنق منه، وستنال منك نظرات الفتاة المنكسرة الحاملة لكل هموم الدنيا، في حين أنها مُرغمة على الخضوع لهذا الوغد دون طوق نجاة يلوح لها، كانت نشأة العلاقة جيدة فعلًا وتظن معها أن الرحلة ستدوم، فأداء حسين شوتري كان جيدًا ومتمكنًا من شخصيته إلى حد جيد، ونظرات فدوى بوجوان كانت لامسة للمشاعر للغاية بهذه المرحلة، فقد يهتز قلبك لصمتها ونظراتها المنكسرة، أو -أضعف الإيمان- ستشعر بالأسى عليها، لكن هنا تتوقف علاقتهما، لتتشابك مع أخرى وتبدأ خطوات الفيلم بالترنح.
نجد "عباس" يستوقف "زكريا" الذي يقود سيارته، ويستجير به أن يقيلهم إلى مقصدهم لأن سيارتهم بها عُطب، يوافق الفتى ويقلهم فعلًا، بالطبع يكذب الآخر في أن الفتاة ابنته ورفيقته هي أمها.. هنا تبدأ العلاقة بين "عائشة" و"زكريا".
وستبدأ العلاقات في التحلي ببعض السذاجة، وسيفعمها اللامنطق ببعض الآحيان، مع غياب معايشتك لها تمامًا، ولهذا أسبابه.
تالا حديد مخرجة الفيلم ومؤلفته، تحاول طيلة الفيلم بلوغ أمرين، أولهما: أن نعيش رحلة "زكريا" بتفاصيلها ويرهقنا البحث معه عن شقيقه، شاعرين باقتراب الأمل وزواله من حين لآخر، وثانيهما: أن نتجرع العلاقات بتطوراتها دون أن نهمل لمحة، فتصل لهذا المستوى الذي شهدناه في أفلام أخرى عديدة، في أن تعيش الرحلة والعلاقات كأنك أحد أفرادها بالفعل، وأن ينتهي الفيلم مُكسبًا إياك تجارب وعلاقات لم تُمهلك الأنفاس، فتعايشت معها حتى النخاع.
حاولت تالا، بل حاولت بجد وليست المشكلة أنها حاولت، بل أنك تشعر بمحاولتها المستميتة لذلك! على الشاشة تشعر بأنها فعلت هذا لتؤثر بك، ورسمت مثل هذا التصرف لتظفر بمعايشتك، وخلقت هذا الموقف لتقحمك به، أنت تشعر بمحاولتها في كل ما يلوح على الشاشة، فلا تأتي التطورات تلقائية لتتجرعها دون جهٍد منك، ولا تأتي الموقف بسرد سلس منطقي يتوغل بك، أنت فقط تشعر بأنها تحاول وتحاول أن تبلغ هذه الأمور فلا تبلغها، لأنه طالما شعرت بمحاولاتها تلك، ولم تأت الأمور بتلقائية وسلاسة، فسد الأمر تمامًا.
فعلى سبيل المثال، عندما يترك "زكريا" الطفلة "عائشة" عند صديقة له لترعاها، تتطور العلاقة بين "عائشة" والصديقة، لكنك لا تتأثر أو تنغمس معهما أبدًا، فهما في مشهد، يجلسان على الفراش سويًا، ثم فجأة يرتميان بظهورهما على الفراش متجاورين ناظرين للسقف، مثل هذه التصرفات في أفلام أخرى تجعلك تغوص معهما في الموقف وتمِسّك شاعريته لأبعد حد، هذا لو أن الأمر جاء تلقائي وسيرورة العلاقة بلغته فعلًا، بينما هنا لم تتطور العلاقة بشكلها المطلوب، وأنت ما زلت تحاول التكيف معها، فإذا بمثل هذا التصرف بين الشخوص، فلا تشعر سوى بمحاولة الكاتبة والمخرجة في فرض الأمر عليك أو دفعك له دفعًا، فيفسد الأمر ولا تُعايشه.
من شاهد مثلًا –ولا وجه للمقارنة- فيلم A Perfect World للنجم كيفين كوستنر، سيتذكر كما كانت علاقته -وهو مختطف شرير- بالطفل الصغير الذي اختطفه، علاقة رائعة وتحمل من التطورات والتفاصيل ما اخترقنا جميعًا في كل لحظة وذرة، رغم تناقض هذه التطورات وتضاربها في أحيان، إلا أن تلقائية الأمور وسلاسة سيرورتها مع جمال مواقفها أقحمنا تمامًا مع الشخصيات وما يصدر عنها، وربما تولدت لهم دموعنا في خاتمة الفيلم، لكن هنا أنت لا تشعر سوى بمحاولات المخرجة مرة بعد الأخرى فلا يظفر منك الفيلم بأي معايشة أو إندماج، بل تتساءل دومًا عما يريده الفيلم! اختارت تالا إطارًا محددًا لأن نعيش رحلة بحث البطل وعلاقات الفتاة، لكن للأسف لم تتمكن منه.
ناهيك عن أمور عدة لا تمت للمنطق بصلة، مثل طريقة هرب الفتاة من "عباس" قُرب نهاية الفيلم، كانت قمة في السذاجة واللامنطقية، خاصًة وأنه كان لتوّه عثر عليها بعد ضياعها منه! ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل تعود الفتاة لسيارته فور هروبها منه وهي تعلم جيدًا أن رفيقته قابعة هناك! وتهرب من الرفيقة بشكل أعتى هزلية من سابقه، فكان المشهد بكامله مثير للضحك والسخرية، حتى أنني أتذكر مُشاهدة أجنبية بجواري في القاعة، صرخت مستنكرة حين عادت "عائشة" للسيارة، صرخت بالفعل مُشيحة بيدها تتعجب من اللامنطقية التي تجلت على الشاشة.
أيضًا رحلة "زكريا" كانت خالية من أي روح، مجرد مشاهد تمر عليك، لا تفهم منها شيئًا أو حتى تعيش منها لحظات، وبدلًا من أن يصيبك إرهاق البحث مع البطل في رحلته، صابك إرهاق البحث عن هدف من وراء ما يُعرض عليك في مشاهد عدة اختصت برحلة بحثه!
ثم تختتم تالا فيلمها بمحاولة أخرى لرسم لمسة من الرمزية والمعايشة، بأن "زكريا" تتدافعه نساء متشحات بالسواد، متكاثرين عليه، فيتقاذفوه بينهن وهو تائه متخبط لا يستطيع أن يثبّت أقدامه، لتتركنا متصورين كيف أن رحلته لا زالت طويلة بعد، وأن الصعوبات والعوائق ستتنازعه دون أن تبارحه طويلًا.
الفيلم المغربي الفرنسي إطار الليل خرج متواضع الحال، في حين أن مادته كانت تسمح بأن يكون أفضل كثيرًا، ولكن مخرجته وكاتبته تالا وضعت لنفسها إطارًا أرادت بلوغه وأرادت لمشاهديها أن يبلغوه معها، في أن نعيش الرحلة ونتأثر بها، وأن نغوص في العلاقات وتعانقنا شخصياتها، لكنها بدلًا من أن تتسع بهذا الإطار وترفعه إلى مستويات إبداعية جديدة، أخذت تضيق به وتضيق.