"لقد ضربَ الخراب في ربوع الكون، لا بقعة يُدركها العمار، هناك من يبثُ الموت في كل مكان، لا يعرف التواصل ولا يتيح الفرصة له، يُبيد البشر عن بَكرة أبيهم، أمسى الهلاك مُسيطرًا، فلو كنت من القلة الناجين، ابحث لك عن مأوى، وإن وجدته، احتضن جدرانه ولا تفتح الأبواب".
ربما هذه التيمة هي واحدة من أكثر الحبكات استجلابًا لمنتجي ومخرجين أفلام الإثارة والغموض والخيال العلمي، بما تفرده من مساحات مرعبة قد تذخر بالأحداث المثيرة والموترّة لأعصاب المُشاهدين، لكن رغم مميزاتها تلك، تظل سلاح ذو حدّين، لأن الفيلم في نهاية المطاف يبقى حالة، إما أن تحبها وفيها تنخرط، أو لا تستهويك غير مكترث لما يدور بها، والفيصل هنا هو إتقان صنعة الفيلم وصياغة حالته بحِرفية مع تجنب أي ثغرات قد تراوغ المنطق.
ربما كان فيلم " Cloverfield" من إنتاج عام 2008، واحدًا من أقوى أفلام هذه التيمة وأكثرها ظفرًا بالنجاح، وكان من أهم الأسباب التي أسالت لُعابنا حين طُرح إعلان فيلم " 10 Cloverfield Lane"، الإعلان الذي – في ظل التكتم الإعلامي البالغ حول الفيلم – ألقى فينا حالة عارمة من الفضول لمشاهدة ما وراء هذه اللقطات القاطعة للأنفاس، وجعل خيالات الفيلم الأول تداعبنا وتنعش أرواحنا بما عايشناه من توتر ولهاث ورعب في أحداثه، بل الأجمل أننا نشاهد هذا في حالة جديدة ومختلفة تمامًا عن حالة الفيلم الأول، فلا فرصة سوى أن يهاجم السؤال شتى حواسك "تُرى ما الذي قاد أبطال الفيلم لتلك الأفعال التي شاهدناها بالإعلان وأي خطر يواجهون؟!".
يدور الفيلم حول الشابة ميشيل " مارى اليزابيث وينستد" التي تتعرض لحادث سيارة يُفقدها وعيها، لتستفيق وتجد نفسها في منزل غريب لم تألفه من قبل، وتجد صاحب المنزل هاوارد " جون جودمان" يروي لها عن الحادث الذي أصابها، وأن العالم اجتاحه هجوم غريب أجهز على البشر جميعًا، وأنه أنقذ حياتها باحتجازها في منزله والحفاظ عليها من الأخطار التي فاضت بالخارج، وفضلًا عن غرابة حكايته، هو ذاته غريب الطِباع، متناقض الأفعال ومثير للشكوك، فلا تقنع ميشيل بحرف مما قاله، وتجنح لخاطر أنه مريض وربما يحتجزها فقط لأهواء تخصه بينما العالم بالخارج مُعافى كما تعرفه تمامًا، لذا ستسعى لاكتشاف الحقيقة بنفسها.
بهذا يصوغ الفيلم تيمته الخاصة ويطرح التساؤل المُحيِّر "هل الخطر فعلًا بالخارج كما يحكي الرجل أم أنه بالداخل وهو الرجل ذاته؟"، ليظل يتأرجح بنا بين هذا وذاك من خلال أدلة جديدة تتضح رويدًا رويدًا مع سيرورة الفيلم، وتصورات تكوّنها ميشيل مع إيميت " جون جالاجار" الشاب المُحتجز معها في المنزل، ويشتعل فتيل صراع كشف الحقيقة إلى أن يبلغ نقطة الانفجار.
جميل.. الحبكة تبدو مثيرة للغاية، ولكن القضية هنا، هل أنا كمُشاهد سأكترث لها وانغمس بها مُلتحمًا مع شخصياتها أم لا؟ هل سأطوّع حواسي معهم وتحتبس أنفاسي لاحتباس أنفاسهم أم لا؟ هل سأقتنع بالأخطار التي تهددهم؟ هل سيغمرني الشك الذي ملأهم بين خطر خارجي لا يعلمون عنه شيئًا وخطر داخلي يلوّح بأنيابه بين لحظة وأخرى؟.. هذا هو مربط الفرس، لكني كمشاهد – للأسف – لم أتعايش مع هذه الحالة ولم تقتحمني كما ينبغي، نعم اختبرت لحظات مثيرة بين الحين والآخر، لكن إثارتها لحظية لا تدوم، مثل مشهد ضرب ميشيل لهاوارد بالزجاجة على رأسه ومحاولتها الفرار من المنزل بينما يلحقها مستجديًا إياها بالنداء صارخًا "لا تفتحي الباب، لا تفتحي الباب"، كانت الإثارة لحظية وفي ذروتها، لكن مع نهاية المشهد، تعود الأمور لسابق وضعها ولا يساورني فضول لأبعد من هذا.
حالة الفيلم لم تلتهمني أعماقها، وشخصياته لم تنجح في توريطي معها، رغم أن الفيلم يُعد من أفلام المكان الواحد وشخصياته ثلاثة لا أكثر، وهذا يسمح بالمعايشة التامة والتوحد الكامل في الحالة، لكن هذا لم يحدث، ربما لأن الثقل كله كان على التأرجح في الشك بين ما يحدث بالخارج ولا نعلم عنه شيء، وبين ما يحدث بالداخل ونشهده مع أبطالنا، ولكن هذا لن ينجح – في رأيي – دون أن التحم مع هذه الشخصيات، في "Cloverfield 2008"، انخرطت تمامًا بحالة الفيلم، كنت ألهث معهم، تحتبس أنفاسي، ويضرب الرعب أعماقي، كان الإدرينالين يفعم عروقي طوال رحلة الفيلم، وكان الفضول يقتلني لأعرف علامَ ستنتهي الأمور، هنا لم يحدث معي شيءُ من هذا، فلا تعايشت مع الحالة وشعرت بالخطر الجسيم الذي أحاط العالم، ولا حتى أرهقني الخطر البادي من صاحب المنزل، ولم يخرج عندي من خانة غرابة الأطوار لا أكثر والتي قد يبررها ما يحكي هو عنه مِن خراب ألَمَّ بالعالم، لكن حالة الفيلم لم تعتريني ولم تنجح في توريطي، وهذا غريب لأن أداءات أبطال الفيلم الثلاثة كانت جيدة تمامًا فيما أتاحه لهم الورق، والثلاثة ممثلون جيدون بالمناسبة، لذا أعتقد أن نَص الفيلم هو صاحب هذه المشكلة، حيث أفرد جُلّ مساحته لغرابة أفعال الرجل وتصرفاته وما يرويه، دون أن يُفرِد مساحات كافية لباق العناصر والأخطار الموجودة بالفيلم، أو ربما تكون المشكلة – حتى هذه اللحظة – مشكلتي أنا كمُشاهد بعينه.
(تنويه: الجزء القادم به كشف للأحداث، ينصح بقراءته بعد المشاهدة)
بينما يحتمل ثلثي الفيلم الأوائل تأويلات بين اصطباغك بحالة الفيلم كمُشاهد من عدمها، وبين إعجابك أو عدم اكتراثك، الثلث الأخير لم يترك هذه الفرصة للتأويلات، وبرأيي أجهز على فرص التفرد التي كان بمقدور الفيلم أن يقتنصها.. على سبيل المثال، في ثلث الفيلم الأخير، يُظهر هاوارد برميل ممتلئ بحمض البيركلوريك الكاوي لميشيل وايميت بعد أن اكتشف خطتهما في مهاجمته والهروب من المنزل، ليفسر لهم بلسانه "أن هذا الحمض فتاك ويُبيد كل ما يلامسه حتى الفولاذ، أما مع البشر فهو يصل إلى العظام"، ثم نرى بأم أعيننا كيف لهذا الحمض أن يلتهم الفولاذ والمعدن في ثوانٍ معدودة بمجرد ملامستهما له، ونرى أيضًا كيف ذابت فيه جثة ايميت من دون أثر، بينما في مشهد آخر يليه، تركل ميشيل برميل الحمض في اتجاه هاوارد، لينسكب الحمض عليه ويسقط هاوارد سابحًا في الحمض على أرضية المنزل، وهو الأمر الذي من المفترض – كما عرضوا علينا تأثير الحمض في مشهد سابق – يشوّه الرجل ويُفقده أي قدرة على الحِراك إن لم يقتله في الأساس، ولكننا نجد هاوارد في لحظة ينضم لقائمة الوحوش التي لا تقبل الردع! وينهض من بركة الحمض مُطاردًا الفتاة، بل وراكضًا خلفها محاولًا أن يظفر بها بسكينه، في شكل لا يخضع لمنطق بعد تعرضه للحمض الكاوي وبالطريقة التي شاهدناها! حتى بوضعنا في الاعتبار ثورة غضبه العارمة أو رغبته في الانتقام من الفتاة، فهما لا يُجيزا قدرته على فعل هذا بعد تعرضه لحمض بهذا الفَتْك وقادر على الوصول لعظام البشر على حد تعبيره هو شخصيًا.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تنجح ميشيل في الهروب أخيرًا والخروج من المنزل، لتكتشف أن الخراب حقيقي، وأن العالم اكتنفه الخواء والدمار، ثم نجد سفينة فضائية تقطع السماء وتتوجه صوب ميشيل قاصدة اقتناصها، فتركض الفتاة – بساقها المصابة من الحادث والتي كانت تزُك بها منذ دقائق – كعداءة محترفة وقد اعتراها الهلع، حتى تبلغ السيارة وتحتمي بداخلها، بينما يخرج من السفينة الفضائية وحش أو مخلوق غريب ربما هو الهول ذاته، لا يعرف المزاح ولن يقبل إلا بالتهام فريسته، ويبدأ في رفع السيارة نحو فمه، هنا – عندما يلعب الزهر – كانت ميشيل قد وجدت بالسيارة قداحة، زجاجة خمر وورق، لتصنع بهم - كخبيرة متمرسة في فنون القتال – مولوتوف يدوي، ثم تتدلى بجذعها من نافذة السيارة خلال رحلة صعودها نحو ثُغر الوحش، وبحنكة منفطعة النظير تنتظر الفتاة اللحظة الحاسمة والتي يفغر فيها الوحش فمه لالتهام فريسته، فتُلقي ميشيل بالمولوتوف في المكان الأمثل باللحظة المُثلى، ليتأوه الوحش متفجرًا هو وسفينته إثر ما ابتلعه! ثم تُدير الفتاة السيارة وتنطلق، ليَرِد إلى مسامعها من إحدى قنوات الإرسال براديو السيارة، نداء بأنهم يستعيدون الساحل الجنوبي وأن هناك نجاة، إن كنت ترغب في النجاة انضم إلينا، نحن بحاجة لمساعدتك، نحن نستعيد الساحل الجنوبي، فتتفجر عينا الفتاة بالحماس والتحدي والعزيمة، ثم تنطلق في رحلتها إلى هناك مُلَبيّة النداء، في نهاية لا يمكن أن تكون أكثر اعتيادية وكليشيهية من ذلك! فتنتهي كل فرص التفرُد الممكنة للفيلم معها، والتي انتظرناها وتوقعناها منذ لحظات صدور الإعلان، وعلى خلفية من استثنائية وتفرد الفيلم الأول عام 2008.
بالنهاية، لا يمكن القول إن الفيلم سيء، لكنه أقل بكثير مما توقعت، ولا يختلف عن كثير من أفلام هذه الفئة، وإذا ما قارناه بالجزء الأول، في رأيي اﻷول يتفوق بدرجات، فمخرجه " مات رييفز" كان أبرع بكثير في إدارة فيلمه، والنص ذاته كان أحكم في أحداثه المثيرة والخاطفة للأنفاس، وكان استثنائيًا ومختلفًا عن أفلام هذا النوع، وفتح أبوابًا جديدة بأفلام هذه الفئة، بينما فيلمنا الجديد طرق الأبواب ولم يفتحها، بل وفي النهاية عاد إلى أبواب قديمة، فتحناها وعبرناها كثيرًا.
الفيلم يبقى مقبولًا وجيد في فئته، لكنه أقل مما توقعناه، ولم يختلف عن أفلام هذا النوع كثيرًا، حتى حالة الانخراط والمعايشة التامة التي اختبرناها بالجزء الأول، لم تكن حاضرة بالجزء الثاني، فإن كنت عاقد الآمال بأنك ستُشاهد ما هو جديد واستثنائي وطفرة بهذا الفيلم، إما أن تُخفِض من سقف طموحاتك قبل أن تُقبِل على الفيلم، أو لا تفتح أبوابه.