صرخات نسائية مُلتاعة تتسلل إلى مسامعك، تتعالى رويدًا رويدًا إلى ان يصُم الصراخ الآذان، ثم تتركز الكاميرا على باب المكان الذي تفجّر بتلك الصيحات المكلومة، وقبل أن تترجم لنفسك ما يدور، ينفتح الباب بعنف على مصراعيه كاشفًا عن مُقتحمه، لنجده ضابط شرطة بفريقه الجنائي في مهمة ضبط وإحضار لشبكة دعارة تُدار في الشقة المقصودة.
تُجَر النساء من غرفها لا يسترها سوى ملاءات هزيلة، معهن رجال تبدّت على ملامحهم إمارات الغباء، مُسلسلين بالعار في قبضة الشرطة، ليتوسط ضابط الشرطة صالة الشقة وقد امتلأ زهوًا بنصره، بينما لفَتُّه صرخات النساء المقبوض عليهن وهن يخرجن من الشقة مصحوبين برجال الشرطة، وتتعالى صرخاتهن مُفسّرة لنا النحيب الذي داعب آذاننا في بداية الأمر.
تلك كانت افتتاحية فيلم " اللي اختشوا ماتوا"، والتي تبدو واعدة مُنبئة بأحداث مثيرة، ليأتي عقبها صوت " غادة عبد الرازق" - راوية الفيلم - يحكي عن النساء التي ضُبطن في واقعة الدعارة وما قادهن لهذه النقطة، لتُركز معها انتباهك متوسمًا سماع قصص مختلفة تنضح بالدراما والتحولات الحياتية وصولًا للمشهد الصاخب الذي افتتح الفيلم، وعِوضًا عن توسماتك الآملة، تتعاقب عليك كوارث الفيلم دون هوادة، وقبل أن تستفيق من واحدة، تلطمك تاليتها بدمٍ بارد.
دعونا نبدأ بسيناريو الفيلم، والذي من المفترض أن يكون عماد أي عمل، خاصًة لو عمل ينطوي على جريمة مُلغزّة أو حبكة بوليسية ماكرة الالتفاتات. في فيلمنا ستجد الدراما تفر من كل منطق ولا تأبه لأي تفاصيل، مُتبنية مبدأ "سأعطيك الأمر ولا تسأل عنه" أو كما نقولها بالدارجة "من غير ليه/ هو كده"، لتدور أمامك قصص تُقاتل عبثًا للظفر بدراما سخيفة لن تثير لديك أي شعور سوى استفزازك! كل عناصر العمل تتكالب على صياغة تراجيديا حمقاء مُغتالة التفاصيل - بدءًا من قصة الهاربة من الصعيد، مرورًا بقصص باقي الفتيات، وصولًا لقصة البطلة الرئيسية - فتشاهدها مستخفًا بسخافتها، داعيًا أن تكون نهاية الأمر قريبة.
أما عن الجريمة بالفيلم وحبكتها البوليسية، فقد تناوبتها الثغرات ذهابًا وإيابًا، ليتجلى مبدأ "هو كده" مؤكدًا ذاته! فتشعر أن لو طالب بالإعدادية يقرأ المغامرون الخمسة كتب الفيلم، لأجاد إتقان حبكته البوليسية عن تلك التي نشاهدها. فعلى سبيل المثال، أداة الجريمة وقصة سقوطها، ثم ارتكاب الجريمة بها، كانت باعثة على الضحك وضربت كل منطق محتمل في مقتل. كذلك مُرتكبة الجريمة ومشروعها الذي أسسته بعد اقترافها فِعلتها، وكأنها تخبر الشرطة "ها أنا القاتلة، لمّ لا تلقون القبض علي؟"، أمر في غاية السذاجة. فلم يُكلف " محمد عبد الخالق" - مؤلف الفيلم - نفسه أي جهد لإتقان بناء نصه وصياغة حبكته، يكتب دون أي اكتراث لأي شيء، ودون أي حساب للأمور، مُكثفًا جهده فقط على ما يبدو في مظهر مثير أو خاطفًا للانتباه، وحتى في هذا فشل، لأن غياب المنطق تمامًا في كل خيوط حكايته، لم يترك مساحة لأي إيجابيات قد تُغازل المشاهدين.
أما عن الإخراج والتمثيل، فكان لهما شأنهما في إفساد الأمور. مُفترض أن غادة عبد الرازق هي الراوية في الفيلم، وتحكي أحداثه في نصفه الأول بالكامل تقريبًا، وربما أدائها الصوتي واحد من أضعف الأداءات الصوتية التي صادفتها - وهذا عجيب لأنها ممثلة متميزة دون شك - فلم أتفاعل مع صوتها مُطلقًا، ولم استشف منه الموقف الذي ترويه، لم أشعر بتلونه مع اختلاف طبيعة الأحداث التي تحكيها، نبرتها لم تظفر بأي استجابة مني، ولا أدري هل السبب يعود لضعف الورق وسخافة أحداثه، أم أنها لا تُجيد الأداءات الصوتية فعلًا. وعن أدائها الكلي بالفيلم، لم يشهد أي تميز، بل طاله الافتعال والمبالغة في عدة مشاهد، وهذا قد يفسره السيناريو الهزيل مع التوجيه الإخراجي. ويبدو أن " هيدي كرم" قد اكتشفت في نفسها كوميديانة مفقودة - بعد مشاركتها ببرنامج نفسنة - وقررت إخراجها، لنجدها في الفيلم تحاول أن تُلقي الدعابات ناطقة العبارات بطريقة تبعث على الضحك من منظورها، فلا تترك ربع فرصة إلا وتحاول إظهار طرافتها، فيتحول دورها للمُفتش عن الضحك فيما لا يخص الضحك بشيء، وتبقى محصلته سخيفًا تُجانبه خفة الروح، مُحاصرًا في خانة الاستظراف. " عبير صبري" لا جديد عندها وطالها الافتعال هي الأخرى، " سلوى خطاب" بنفس شخصية "سمرة" من مسلسل "نيران صديقة"، والتي لم تفارقها منذ نجاحها في المسلسل، لتُلقيها علينا في كل عمل تشارك به منذ ذلك الحين، هرمنا منها ولم تهرم هي بعد! بينما " مروى" اللبنانية لم تتقن سوى لكنتها المُحطمة والتي تجاهد معها للفظ كلماتنا المصرية بشكل صحيح، ولن تدري سببًا لاختيارها في هذا الدور! " مروة عبد المنعم" لم أشعر بها كثيرًا، وصابها داء الافتعال العُضال بفيلمنا هي الأخرى. " أحمد صفوت" لم يقنعني لحظة. " محمد محمود عبد العزيز" في دور لا يقربه البتة، ومحاولاته في أن يظهر كشاب "صايع فهلوي مقطع السمكة وديلها" باءت بالفشل ولم تزد الدور إلا نفورًا عنه، من أكثر أدوار الفيلم التي صرخت بعدم ملائمتها لمؤديها، وكذلك لن تفهم سبب اختياره للدور. أما "إيهاب فهمي"، فلو حاول أن يكون أكثر ابتذالًا مما كان في دوره لمّا نجح، يؤدي دور ضابط الشرطة بتفاصيل مبتذلة شهدناها ملايين المرات، والأدهى أنه يمارسها كأنها سَبق له وستتوج كإنجاز يُحسَب في تاريخه!
بعد هذه الأداءات التمثيلية، لا داعي للحديث عن الإخراج كثيرًا، يبدو أن "إسماعيل فاروق" - مخرج الفيلم - لم يحالفه التوفيق في أي شيء، فلا هو استطاع تقويم مثل هذا السيناريو السقيم، ولا تمكن من إدارة ممثيله بالشكل المطلوب، ولا حتى أبدى عزمًا على ذلك، فكان كل ما أجاده هو الدعاية لفيلمه وتزيينه بمقومات جالبة للجماهير لا أكثر. حتى أنه أخذ يثرثر مع فريقه عن القضايا النسائية التي يناقشوها من خلال الفيلم وأحداثه، مستعرضين مشكلات ضاقت بها النساء ذرعًا في مجتمعاتنا، ونشعر أننا على وشك مشاهدة شيئًا مختلفًا يسعى لتقديم قيمة، لنجد في النهاية تراجيديا معطوبة لا تقنع أحدًا، وحبكة امتلأت بـ"المراجيح".
نأتي أخيرًا لاسم الفيلم، لو تدبرت في كل أحداث الفيلم، لن تفهم لماذا يحمل هذا الاسم، فلو افترضنا انهم يقصدون شخصيات الفيلم الشريرة بـ"اللي اختشوا ماتوا" مثلًا، لن يصيب الافتراض، وإلا كان الاسم ملائمًا لأي فيلم أو مسلسل يحوي شخصيات برعت بالشر والاحتيال! هنا لن يترك لك الاسم مجالًا سوى التفكير بأن صُناع الفيلم انتقوه ليكون براقًا مع الفريق العامر من بطلات الفيلم، فاسم مثل هذا مع تصنيف للكبار فقط مع طابور الممثلات الجميلات، قادرًا على أن يجلب جمهور عريض للمشاهدة، ليكتشف هذا الجمهور بنهاية المطاف أن الفيلم لا يشمل ما توقعوه، والأدهى أنهم لن يجدوا بالفيلم أي إيجابيات تعوضهم عن تصورهم أو تواسيهم، بل أن الإرهاق سيصيبهم لو حاولوا أن يحصوا سلبيات الفيلم حتى.
الفيلم مأساة تتحرك على الشاشة، ولا أجد توصيف غير هذا يلائمه، أنت تشاهد ولا تجد إيجابية واحدة بالفيلم تسعفك، بل تتنافس عناصره على إثارة ضيقك، ويصبح ملاذك أن تقترب نهايته. وحين ينتهي، تدرك بمرارة أن عنوان الفيلم لا يناسب إلا صُناعه، ولا يعبر إلا عنهم! فعندما تبلغ أفلامنا هذا المستوى من الاستسهال، يكون صدقًا "اللي اختشوا ماتوا، وشبعوا موت".