قبل بداية عرض الموسم السادس من Game Of Thrones، طارت العصافير في كافة أنحاء سماوات الإنترنت لتغرد عن مدى القوة والثقل الدرامي وكم المفاجأت الذي ستحمله الحلقة الرابعة بعنوان The Book Of Stranger لكل المشاهدين، وللحق، فإن كل الكلمات المتناثرة حول قوة هذه الحلقة كان في محله بالفعل، فبعد حلقة أولى عادية في مساراتها، وحلقتان تاليتان قد تكونا جيدتان لكن ليس لدرجة الروعة التامة، تشعر فجأة وكأن الحياة قد دبت في كافة أوصال المسلسل.
هناك إحساس آخر لازمني طوال مشاهدة الحلقة، وهي أن هذه الحلقة قد بدأت ما قد اعتبره التمهيد لبدء جمع الخيوط الدرامية المتناثرة على طول كافة خطوط المسلسل على مدار المواسم الماضية، أو بمعنى أبسط، هناك بداية نحو إعادة "العفريت" ببطء وروية إلى القمقم مجددًا، وهذه العملية ستستغرق وقتًا طويلًا، لكننا هنا شهدنا بشائرها اﻷولى.
خمسة مواسم شهدنا خلالها تشرذم هائل لا يرحم مر به جميع آل ستارك: إعدام اﻷب وتعليق رأسه في كنيجز لاندينج على يد الملك جوفري ووسمه بالخيانة، مقتل اﻷم والابن اﻷكبر وزوجته الحبلي في مذبحة بشعة، تفرق السبل ببقية الأبناء ورفقاء الطفولة في كافة أنحاء ويستروس: جون سنو يؤدي الخدمة في السور وسانسا تنتقل من زواج باﻹكراه إلى زواج آخر باﻹكراه أيضًا ومن كنيجز لاندينج إلى وينترفيل، حيث آريا تهيم كريشة في مهب الريح من مدينة ﻵخرى وبران وريكون هائمان هما اﻵخران على وجوههما، اﻷول يقبع مع الغراب ذي ثلاثة أعين ليشهد تاريخ عائلته الفعلي، واﻵخر يقع في قبضة رامزي بولتون، أما ثيون جريجوي فيتحول إلى قاتل أهوج وينتهي به الحال رجلًا مخصيًا مسلوب اﻹرادة.
كل ما سبق ونعلمه علم اليقين قد جعلنا جميعًا نشهق لا إراديًا بصوت عالي مع انفتاح بوابة السور على مرأى سانسا ستارك مباشرة التي تلجأ ﻷخيها غير الشقيق جون سنو، إنها لحظة مشهودة، والمخرج دانيال ساكهايم يدرك أثر هذه اللحظة بالذات في النفوس خاصة بعد كل المآسي التي حلت على رؤوس آل ستارك، لذا يعطيها كل وقت العالم حينما تأخذ المفاجأة كل منهما، تاركًا إيانا مع رد فعلهما قبل أن ينتهي المشهد باحتضان منتظر يعوض عن طول الفراق والشتات.
بقية المشاهد التي تجمع سنو وستارك تخرج منهما كل الخصال الجديدة التي اكتسباها بفعل الشدائد العديدة التي تعرضا لها طوال الفترة الماضية، جون سنو لم يعد نفس الرجل المثالي المتمتع بأخلاق الفرسان، وسانسا لم تعد تلك الفتاة المراهقة التي كانت أقصى أمانيها الزواج من فارس اﻷحلام المنتظر، هناك استنباط ذكي ومدروس لكل هذا المخزون المتشابك والمركب من اللوم والعتاب والاشتياق والرجاء والحب الأخوي والبحث عن الحماية والسعي للم الشمل.
وبعيدًا عن جون سنو وسانسا ستارك، يؤسس المخرج ﻹحساس مفهوم بالتوتر بين كل من مليساندرا وبيرين أوف تارث على خلفية تورط اﻷولى في قتل شقيق ستانيس براثيون الذي كان منافسًا له في الحكم، والذي تعهدت له الثانية بالولاء والخدمة قبل قتله بالسحر الذي حاكته مليساندرا.
على مدار الحلقات الماضية، وأغلب حلقات الموسم الماضي كذلك، لم يخفي على أحد حالة الركود الدرامي التي كان يعاني منها الخط الخاص بتيريون لانيستر، وأنه لولا فقط الحضور القوي لـبيتر دينكليدج، لما كان هناك في هذا الخط شيئًا يستحق عناء المشاهدة من ناحية اﻷحداث، بل حتى لم يجيب أحد عن التساؤل الشرعي حول ما جرى للتنانين بعد أن فك تيريون أسرها بنفسه في مشهد لم ندرك بالضبط مدى أهميته فيما سيستتبعه دراميًا.
هذه المرة هناك تعويض هام يحدث لهذا الخط، نحن نعود هنا لما عهدناه من شخصية تيريون لانسيتر بالفعل، ولما يجيده حقًا، وليس مجرد استعراض لخفة ظله مثلما كان في الحلقات الماضية، هنا نرى تيريون المخطط الداهية والدبلوماسي الهاديء الذي يجيد الحصول على ما يريد وليس فقط ذلك الذي "يشرب ويعلم حقائق اﻷشياء"، حتى لو كان كل من حوله يرون أن الصفقة التي عقدها لا تنناسب مع مبادئها، لكنه ينجح رغم كل شيء في توصيل وجهة نظره.
بعد غياب طويل، يعود اللورد باليش الذي يقوم باللعب من وراء الستار دون أن يلاحظ أحد ألعابه، ويعود معه روبين آرين الذي كان حتى اﻷمس القريب مجرد صبي مدلل يرضع من ثدى أمه ليسا تيلي حتى بعد أن شب عن الطوق، ويمارس اللورد باليش مرة أخرى ألاعيبه الخفية باﻹيحاء إلى اﻷمير ذو الشخصية الضعيفة لكي يحرك جيشًا في سبيل إنقاذ ابنة خالته سانسا، يا ترى ما هي الخطوة التالية التي يفكر بها هذا الداهية؟ وإلى أين سيصل بلعبته؟
وأخيرًا، يعود هذا الخط الدرامي الشيق لسابق عهده، فبدلًا من اعتكاف كل فرد من آل لانسيتر وآل تاريل في تجرع اﻵلام في صمت أو تبادل الاتهامات مع اﻵخر، تدرك كل اﻷطراف أخيرًا أن العفريت الذي أخرجته سيرسي من قمقمه وهو العصفور اﻷعلى قد تجاوز مرحلة التعايش معه إلى مرحلة البحث عن حل جذري لاجتثاثه تمامًا من كينجز لاندينج بعد أن بات هو الحاكم الفعلي والملك تومين مجرد حاكم شكلي لا حول له ولا قوة.
ومرة أخرى، يفرد المخرج للعصفور الأعلى مشهدًا كاملًا يؤكد فيه على حضوره القوي وقدرته الغريبة على الاستيلاء على آذان مستمعيه بفعل صوته الرزين الهاديء وحكيه المتأني المرتب، حتى أن الكاميرا نفسها تستسلم تمامًا لمعسول كلامه وتقترب عليه بهدوء لتنتهي إلى لقطة قريبة متوسطة لكي تنضوي بعدها مارجري تاريل في أول ظهور لها خارج زنزانتها خارج الصورة تمامًا، ويترك قيادة المشهد بالكامل على طبق من ذهب للممثل البريطاني المتميز جوناثان برايس .
في هذا الخط، يأتي لم شمل آخر لكنه ليس بنفس حميمية لم شمل جون سنو وسانسا ستارك، بل كان قاسي الوقع كقلب يارا جريجوي التي عاملت شقيقها العائد ثيون بقسوة مفهومة اﻷسباب والدوافع لمن شاهد المواسم السابقة، وتأكيدًا على مدى قسوة المشهد، تسيطر الظلال بشدة على الصورة هنا مع درجة لونية تمزج بين اﻷزرق واﻷخضر في أقصى درجات شحوبهما، وذلك على عكس متلازمة اﻷبيض واﻷزرق في السور.
يأبي المسلسل أن يحرمنا من طلعة رامزي بولتون البهية لكي يذكرنا على الدوام بكل أسباب كراهيته له وتمنياتنا بميتة شنيعة له عن قريب تتناغم مع ساديته وتحجر قلبه، هذه المرة يترك ضحيته وأسيرته أوشا على سجيتها لكي تمارس عليه كل حيلها اﻹغوائية الأنثوية في سبيل قتله دون أن يشعر، لكنها لم تدرك مع اﻷسف أنه كان ينصب لها فخًا عن وعي، مستدرجًا إياها كفأر يتجه نحو مصيدته.
وأخيرًا، جئنا للمتعة الخالصة، "مع الغرائب والطرائف والروائع والعجائب" على حد قول اﻹعلامي جلال علام، حيث يتم إدخار أكثر حدث مثير في الحلقة حتى النهاية مع التمهيد له قبلها، كيف ستنجح دينيريس تارجيريان "الكاليسي" في الخلاص من قبضة الدوثراكي؟
بعد مناورة طويلة ومثيرة وشيقة يقوم بها داريو نهاريس وجوراه مورمونت للدخول إلى المدينة، واضطرارهما للاشتباك بدون سلاح -تقريبًا- مع اثنين من الدوثراكي، يصل كلاهما لمليكتهما، لكنها لا تفر معهما بهذه البساطة، فهي تدرك من سابق خبرتها بالدوثراكي استحالة هذا اﻷمر، لذا تلجأ إلى خطة بديلة لا نعرف حتى لحظة لقاءها بقادة الدوثراكي طبيعتها بالضبط إلا مع ختام حديثها معهم، ولحظتها نعجب من جديد بذكاءها الثاقب حتى مع تكرار الخدعة التي رأيناها في نهاية الموسم اﻷول.
لكن هناك شيء مختلف جذريًا بين اللحظتين، دينيريس من أكثر الشخصيات التي تطورت في المسلسل بشكل منطقي ومحسوب جدًا، في لقاءها بالدوثراكي هذه المرة لم تكن تلك الفتاة الوجلة ذات اﻷعين الزائغة التي كان شقيقها يتفحص جسدها بكل وقاحة، ولم تكن تلك الملكة التي تواجه صراعًا ذهنيًا بين ما يجب فعله وما يمكن فعله، فهي هنا كانت تعي وزن كل كلمة مستفزة تلقيها على مسامعهم وهم مذهولون، بابتسامة ساخرة ونظرة عين راسخة لا تهتز، وكل هذا ونحن لا ندرك ما الذي تملكه من حيلة هذه المرة لكي تكون بكل هذه الثقة الراسخة والمخيفة، حتى نعرف أنها ستولد ثانية من قلب النار دون أن تمسها بضرر، عارية تمامًا كطفل وليد ناظرة لرعاياها الجدد وهم ينحون لها، مقبلة على مرحلة جديدة غدت فيها "كاليسي" جديدة أكثر حسمًا وأكثر ثقة.
عندما شاهدت الحلقة اﻷولى، لم أكن متفائلًا على اﻹطلاق بهذا الموسم، لكن هذه الحلقة منحتني أكثر مما كنت أتمنى، إنها اﻷفضل لهذا الموسم حتى اﻵن، شابو.