الكلمة الأقرب لوصف فيلم "Mommy" للمخرج زافييه دولان هو أنه فيلم جريء، والجرأة هنا لا تأتي فقط من كون الفيلم يحتوي على عناصر تقنية جديدة، حيث استغل المخرج كونه مخرج أغاني مصورة في الأساس ليضعها في فيلم، ولكن الجرأة تأتي أيضًا من نوعية المشاكل التي يطرحها والتعريفات الجديدة التي يعرف بها مبادئ قررها المجتمع بمنآى عنّا نحن البشر، المتورطون بغير إرادتنا في محاولة لمجاراة تلك التعريفات.
الفيلم عن علاقة بين أم وابنها المضطرب، ويبدأ الفيلم بخبر أن الحكومة الكندية تكفل علاج أي مواطن يعاني من اضطرابات نفسية في مستشفيات الدولة على نفقتها الخاصة، الأمر الذي سنفهم جدواه لاحقًا حينما نعلم أن ستيف (الابن)، مصاب بمرض قلة الانتباه وفرط الطاقة، ويدور الفيلم حول علاقتهما ببعضهما البعض إلى أن يدخل فرد ثالث ضمن الأحداث، وهي جارتهم (كايلا)، معًا سيمرون ببقية أحداث الفيلم.
الأمر الأول الذي سيحاول زافييه دولان أن يعيد تعريفه هو فكرة الأمومة، وكيف أن المجتمع يلقي على الأم حمل عادةً ما يكون أكثر مما تحتمل. إذ تُفيد معظم الدراسات الحديثة أن معظم الأمهات يشعرن بالذنب ناحية أطفالهن، ويشعرن بمسؤولية أن أي شيء سيء يحدث لهم هو بالضرورة بشكل أو بآخر نتيجة خطأ ما منهن، الأمر غير المنطقي إطلاقًا لأن الأشياء السيئة تحدث دائمًا، وعادةً لا تحدث الأشياء السيئة بسبب غلطة أحد ما بل لأنها تحدث، هكذا الحياة.
دائمًا ما يضع المجتمع الأم في منزلة القديسين، فلا يجب على الأم أن تخطئ أبدًا، ويجب عليها أن تبدأ سلسلة التضحيات بمجرد أن يرى طفلها العالم، وعليها أن تكون سعيدة، ويجب عليها بالضرورة أن تشعر ناحيته بعاطفة الأم طوال الوقت ومنذ اللحظة الأولى، في حين أن الأم هي بشر، أحيانًا تخفق وأحيانًا لا يجب أن تضحي، وبالنظر إلى شخصية "داي" سنجدها أقرب مثال إلى ذلك، فهي بمقاييس مجتمعية عقيمة أم فاشلة، ليست أم فاشلة فقط ولكنها أيضًا سيدة فاشلة بمنآى عن ابنها.
يقول عماد العذري في مراجعته لفيلم "Boyhood" لـ"ريتشارد ينكلاتر": "والدة ميسن بالرغم من كونها أمًا عظيمة كافحت كثيرًا من أجل ولديها إلا أن النص لا يقدمها بصورة الأم العظيمة، يرى في كلمة عظيمة شيئًا مبتذلًا عند تناول الأم، الأم –أي أم- هي عظيمة حتى يثبت العكس." ويؤكد زافييه دولان على هذه الحقيقة في الفيلم، بمعايير اليوم أي أم عظيمة تلك التي تسمح لابنها بالتدخين، وتسمح له بلمس صدرها، ولا تهتم بتعليمه سوى في هذا السن المتأخر، وتسمح له بضربها وشتمها؟ أي أم تلك التي تسب ولدها وتلعنه؟ كل هذا كان من الممكن أن ينفي صفة العظمة عن "داي"، لكن "داي" مع ذلك عظيمة لأنها أم، ابنها عاق ومشاغب لحد يصل إلى الإجرام أحيانًا، لكن الأمومة لا تقاس هكذا، والحب بين "داي" و"ستيف" جوهره هو أن حياتها تدور حوله، لا تنجح في تحقيق حلمها الذي نراه يومض أمامها بأنه التحق بالجامعة ووقع في الحب وتزوج وأصبحت جدة، ولكن حياة "داي" وهبتها بالكامل له بدون وعي، والحكم هنا هو على أفعالها وآمالها نحوه لا النتائج، لأن طاقتنا في الحب تخذلنا أحيانًا، لكنه يظل حب في النهاية.
التعريف الثاني الذي سيحاول "دولان" تغييره والثورة عليه هو تعريف العائلة، فبالنظر إلى علاقة "ستيف" بأمه سنجدها منحرفة عن مسارها الطبيعي، لأن "ستيف" منجذب لأمه جنسيًا، نجد ذلك في لمحات بسيطة مثل المرة التي حاول أن يمسك صدرها أثناء رقصهما معًا والمرة الثانية حين يثور بغير سبب عندما يراها تغازل شخص آخر، ثم يظهر ذلك بوضوح في القبلة التي يتشاركاها أمام غرفته في المنزل، لكننا نرى مدى تصالح المخرج مع الأمر، فلا يظهره بشكل مقزز بل بشكل عادي وحميمي أحيانًا، فانجذاب "ستيف" ناحية أمه ليس بدافع الشهوة بل القرب، هو لا يألف في الدنيا سواها، لذلك كل مشاعره من حب وعطف وكره وغضب وجنس وغيرة موجهة لها، فلا يلقي المخرج باللوم على "ستيف" أولًا لأنه مضطرب ثانيًا لأن الانجذاب الجنسي هو نتيجة الحميمية لا الشهوة.
بالنظر لـ"كايلا" فنجدها بالفعل زوجة وأم لطفلة، لكنك أيضًا تشعر بتلك المسافة بينها وبين زوجها، فهي نجحت في التخلص من التلعثم في الكلام بينها وبين "ستيف" و"داي"، ولكن نجدها ما زالت تعاني من الصعوبة في الكلام مع زوجها، وفي النهاية سنجدها تخبر "داي" بأنها مضطرة أن ترحل وأنها لا تستطيع أن تترك عائلتها لتبقى معها، أي أن "كايلا" شعرت بالقرب نحو تلك العائلة التي اختارتها (ستيف وداي) –والمرء لا يختار عائلته أبدًا- للدرجة التي جعلتها مضطرة لأن تبرر رحيلها لها، فنحن هنا أمام علاقة غير اعتيادية بين أم وابنها وعلاقة أيضًا غير اعتيادية نمت بين "كايلا" و"داي" و"ستيف"، بذلك يثور "دولان" على تعريف العائلة الطبيعي، فأحيانًا تولد بين ناس لا تعرفهم، تتزوج من شخص لا تعرفه، ثم تجد عائلتك، مكان راحتك وسعادتك لاحقًا مع شخص آخر ولو بالصدفة.
طبعًا لا يمكننا غض البصر عن طريقة التصوير الجريئة التي اختارها "دولان"، فنجد الكادر يفتح ويغلق على حسب حالات أبطاله بطريقة "فيديو كليبية" بحتة، وهو الأمر الذي لا يحاول أن ينفيه "دولان"، بل أن الفيلم بالفعل يحتوي على العديد من الفيديو كليبات، حيث تبدأ أغنية ثم يتراقصا عليها كما يحدث في الأغاني المصورة بالضبط، ولكن كل أغنية هنا كانت تعبر عن معنى وإحساس مختلف، فالأغنية التي تشاركوها في المطبخ، عبرت بشكل كبير عن حميمية العلاقة بين "ستيف" وأمه، وعن بداية راحة "كايلا" بالتواجد معهم، أما في المقابل الأغنية التي تشاركها "ستيف" والفتاة في البار عبرت عن غضب "ستيف" وإحساسه بالغيرة على أمه بل وعن حزنه أيضًا لاعتقاده أنه في تلك اللحظة يفقدها، الأغنية التي يفتح فيها الكادر أول مرة وهو على مزلاجته وكلًا من "كايلا" و"داي" على دراجاتهما عبرت عن الحرية التي يتنفسها "ستيف" وأمه ربما لأول مرة منذ زمن، وفي النهاية الأغنية التي ستبدأ وهو يحاول الفرار من المستشفى عبرت عن اعتقاده بأنه حر ولكنه في الحقيقة ما زال محبوسًا داخل الكادر، فنجد الكاميرا تركز على رجله لا الباب الذي أمامه، الذي كان مغلقًا باﻷساس، ولا نجد الكادر يتسع، كنايةً عن أن هروب "ستيف" باء بالفشل في النهاية.
بكل تعقيدات الشخصيات تلك، فيلم "أمي" هو واحد من أهم الأفلام التي تناولت قضية الأمومة، وهو واحد من تلك الأفلام التي إذا رأيتها ستعلق في ذاكرتك، ولن تنتهي بمجرد انتهاءها على الشاشة، لأنه أولًا وأخيرًا عن ثلاثة أفراد مثلنا.. تائهين، مضطربين، يبحثون عن بعض الشيء من الاستقرار والسعادة، يحملون بداخلهم شعلة أمل -كما قالت "داي" في النهاية- وأعتقد أن أمنية "داي" كانت أن يتسع الكادر ثانيةً، ولكن هذه المرة تمنت هي أن يكون إلى الأبد.